newyorker – (ترجمة بلدي نيوز)
إن أهوال الحرب في سوريا تظهر في الملايين من الصور العنيفة جداً، لأطراف محروقة مكدّسة خارج عنابر المستشفيات، جثث منتفخة متعفّنة في أزقة القنّاصين، طفل صغير تمّ سحبه من تحت الأنقاض دون رأس، مجموعة من الأقارب الذين يحاولون حمل جثة الرجل الستّينيّ والذي مات جوعاً، إذ أن العشب المغلي والتوابل الذي كان يقتات عليها لفترة طويلة لم تعد قادرةً على الحفاظ على حياته، في حين يناضل أقاربه بقوة في حمل وزنه، وذلك لأنهم هم أيضاً يتضوّرون جوعاً، جيلٌ من الأيتام والأطفال الذين لم يقوموا أبداً بتعلّم القراءة والكتابة، ولكنهم يستطيعون معرفة الفرق ما بين أصوات القصف وتلك الأصوات القادمة من الضربات الجوية، القصف المتعمّد للمستشفيات والعيادات، وعمليات الاغتيال والاستهداف والتي تستهدف العاملين في المجال الطبي والإنساني، الاعتقال التعسّفي والتعذيب المنهجي، التهجير القسري، وهجمات الأسلحة الكيميائية، أعداد القتلى المرتفعة جداً، والتي يستحيل التحقق منها وتعداد محصّلتها بشكل دقيق، ممّا دفع الأمم المتحدة للتوقف عن العدّ منذ عامين.
في أعقاب أهوال الحرب العالمية الأولى، قام محامٍ بريطاني يدعى هيوبيلوت بالتضرّع لسنوات لعصبة الأمم المتحدة لإنشاء محكمة جنائية دولية في لاهاي، لمحاكمة جرائم الحرب وجميع الجرائم المرتكبة خلافاً للقوانين الإنسانية، بالنسبة لبيلوت فإن السماح لتلك "الاعتداءات" التي ارتكبت خلال الحرب العالميّة والتي تضمنت الاستخدام الواسع النطاق للأسلحة كيماوية، لتمر دون أي محاسبة ومعالجة جذرية، سيكون "خطيراً للإنسانية والحضارة" وكذلك لما كانت عليه الفظائع بحدّ ذاتها.
لقد انحسرت جهود بيلوت القصيرة بعد ذلك، بينما استغرق الأمر المجتمع الدولي لحصول "المحرقة النازية" لإنشاء أول محكمة لجرائم الحرب الدولية في العالم، بينما كان نصف القرن الآخر من الفظائع في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، وأوروبا الشرقية قد دفع بذلك ليتحقق بشكل كامل، وفي عام 1998 وبعد عمليات القتل واسعة النطاق في كل من رواندا والبوسنة، عقدت الأمم المتحدة اجتماعاً لمدة خمسة أسابيع في روما، لوضع مشروع معاهدة لإنشاء محكمة جنائية دولية يمكنها محاكمة جرائم الحرب والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، ومعاقبة مرتكبيها، من الناحية النظرية فقد اعتقدت الأمم المتحدة بأن وجود مثل هذه المحكمة من شأنه أن يقدم رادعاً للحكام المستبدين وأمراء الحرب القابلين عن ارتكاب جميع أشكال الوحشية، إذ يمكن اصطياد الجناة الذين يعيشون في أي مكان في العالم وحتى آخر أيام حياتهم.
وفي نهاية المطاف، لم يكن هنالك من مكان أثبت فيه بطلان فعالية رادع العدالة المفترض ذلك بشكل واضح كما كان هو الحال في سوريا، سوريا وكمعظم البلدان قامت بالتوقيع على نظام وثيقة روما الأساسي، والذي وفقاً لقواعد الأمم المتحدة، يعني بأنها ملتزمة "بعدم تعطيل موضوع وأهداف المعاهدة"، ولكن ولأنّ سوريا لم تصدّق فعلاً على تلك الوثيقة، فإن المحكمة الجنائية الدولية ليس لديها أي سلطة مستقلّة للتحقيق ومقاضاة الجرائم المرتكبة في داخل الأرضي السورية ومحاكمة مرتكبيها.
ولدى مجلس الامن الدولي القدرة على إحالة الولاية القضائية إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولكن محكمة العدالة الجنائية الدولية هي مسعى جديد وهشّ نسبياً، بالإضافة إلى أن تطبيقه يتوقف على الجغرافيا السياسية إلى حد مثير للقلق.
في عام 2014، وعند البدء باتخاذ التدابير اللازمة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا أمام مجلس الأمن الدولي، حالت روسيا والصين دون القيام بذلك، باستخدامهم لحق النقض، وفي الوقت نفسه ومنذ عام 2011، لم تكن قد مرت دقيقة واحدت لم تقم فيها الحكومة السورية بارتكاب جرائم حرب متعددة وعلى نطاق واسع، في وقت واحد وعلى نطاق واسع، إن مجموعة كبيرة من أدلة المحكمة جاهزة الآن ضد كبار المسؤولين في الحكومة السورية حيث هي الأكثر اكتمالاً وتدين أشخاصاً ارتكبوا جرائم للحرب بشكل مباشر، تلك الأدلة التي سبق جمعها خلال الصراع من قبل النشطاء، وللأسف فحتى الآن لا يوجد مسار واضح لملاحقة المخالفين على مستوى أعلى.
لقد تم إنتاج أكثر الأدلة التي تجرّم نظام الأسد من قبل الإجراءات البيروقراطية الهائلة التي يشنّها النظام بنفسه، حيث أن ضباط الشرطة العسكرية تم تجهيزهم بشكل منهجي لتصوير الجثث الهزيلة للآلاف من المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب حتى الموت على أيدي رجال الأمن والاستخبارات، وأكثر من خمسين ألفا من هذه الصور موجودة حالياً في حوزة المحامين الدوليين ومحققّي الطب الشرعي، لقد هرّب محقّقون مستقلّون في جرائم الحرب، والذين يعملون لدى لجنة العدالة الدولية والمساءلة، من سوريا أكثر من ستمائة ألف من ملفات الحكومة، والتي تسمح لهم بتعقّب ممارسات التعذيب الممنهج وقتل عشرات الآلاف من المشتبه في انتمائهم للمعارضة، وفقاً لأوامر صادرة من اللجنة الأمنية عالية المستوى والتي تعمل تحت إمرة بشار الأسد، والتي وافق عليها الأسد بنفسه، كما قامت تلك اللجنة أيضاً بالتحقيق في جرائم تنظيم الدولة في الإبادة الجماعية لليزيديّين، ولكن ومهما كانت انتماءات الجناة، فإن مجرمي الحرب الوحيدين الذين من المحتمل أن يواجهوا محاكمة وشيكة لدورهم في الصراع السوري هم العملاء المنخفضي والمتوسطي المستوى، والذين تم القبض عليهم من قبل الولايات القضائية الأوروبية، بعد دخولهم للقارة تحت الغطاء المتدفّق للّاجئين.
ويعرّف نظام روما الأساسي "الجرائم ضد الإنسانية" على أنها مجموعة من الأعمال اللّاإنسانية "المرتكبة في إطار هجوم واسع النطاق أو المنهجي والموجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين."، إن الجرائم المختلفة المطبّقة والتي كانت (ولا تزال) ترتكب في مراكز الاحتجاز الحكومية السورية والتي تشمل على التعذيب والقتل والاغتصاب والاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني، والاضطهاد، والأفعال اللّاإنسانية الأخرى، بالإضافة لكل مرة يحظر فيها النظام السوري وصول مساعدات الأمم المتحدة للمناطق التي تقع تحت حصاره، كما فعل بشكل روتيني في السنوات الأربع الماضية، هي بشكل قاطع ارتكاب لعمل من أعمال "الإبادة"، والتي هي جريمة ضد الإنسانية تقع تحت بند "الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكان".
كما يتيح نظام روما الأساسي السلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب التي ترتكب "كجزء من خطة أو سياسة عامة"، أو على نطاق أوسع من ذلك، وإذا ما سمح للمحكمة للتحقيق في جرائم الحرب في سوريا، سيكون من غير المفاجئ أبداً أن نرى ملاحقات قضائية في المستقبل لكبار المسؤولين في النظام السوري، بما في ذلك الأسد بنفسه، وذلك لقيامه بمجموعة من الجرائم المحظورة دولياً بموجب اتفاقيات جنيف، بما في ذلك جرائم القتل العمد الوحشية والتدمير المفرط للممتلكات وراء الأهداف العسكرية، إجبار السجناء على القتال نيابة عن خاطفيهم، الهجمات المتعمّدة ضد المدنيين، الهجمات المتعمّدة الموجّهة ضد العاملين في المجال الإنساني والمنشآت والمركبات التي تعمل لهدف إنساني، قصف البلدات العزلاء والقرى والمباني، قتل أسرى الحرب، مهاجمة الأسواق عمداً، والمدارس، والمستشفيات، التشويه، النهب، استخدام الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك "الغازات الخانقة"، وتعمّد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، بالإضافة للتعمّد في عرقلة وصول أي إمدادات غوثية.
ومع مشاركة روسيا الآن بنشاط في حملة الأسد الجوية الوحشية، مستخدمة ذخائر حارقة محظورة دولياً، وتكرار قصف المستشفيات والأسواق في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة نيابة عن الأسد، فقد انخفض احتمال قيام مجلس الأمن الدولي بإحالة الولاية القضائية في نهاية المطاف إلى المحكمة الجنائية الدولية إلى ما يقرب من الصفر في المئة، إذ أنّ من المستحيل بالنسبة لروسيا التصويت لصالح الإجراء الذي يمكن أن يؤدي إلى محاكمة القادة العسكريين الروس، لقد أصبحت الحرب السورية على ما يبدو، بكونها الصراع الذي ترتكب فيه جميع جرائم الحرب كافة و دفعة واحدة، ودون أي عواقب!
لقد أصبحت سوريا على ما يبدو المكان الذي يتمّ فيه تطبيع ارتكاب هذه الانتهاكات اللّاإنسانية كجزء من استراتيجية عسكرية، بدلاً من أن ينظر إليها على أنها انحراف لاأخلاقي!
لقد شجّع مناخ الإفلات من العقاب الحكومات الأخرى لتنفيذ الأعمال الوحشية في السعي لتحقيق أهدافهم، في حين أمضت الدول الغربية والأمم المتحدة الأعوام الخمسة والنصف الماضية في إدانة الفظائع بعد الفظائع في سوريا، والجرائم عقب الجرائم، ولكن دون أيّ جدوى ودون أن يتغير أي شيء، بعدالة محدودة جداً من خلال الجغرافيا السياسية المحدودة...
فمن الذي سيخشى الآن القانون الدولي في سوريا؟
*بين توب، الكاتب المساهم في موقع "نيويوركر"، لقد تمّ إعداد التقارير عن هذه المقالة من خلال التسهيلات من مركز بوليتزر المعنيّ بتقديم تقارير الحرب.