بلدي نيوز – (عمر الحسن)
تحرير جرابلس الذي حدث بغتة وبسرعة كبيرة جداً صدمت "أصدقاء" الشعب السوري قبل أعدائه، لا يمكن أن يكون إلا نقطة بداية لحدث وتحولات عظيمة في المنطقة، قد تغير في الاتجاهات العامة للأحداث في سوريا والشرق الأوسط ككل.
دخول جرابلس، في العملية التي أطلق عليها اسم "درع الفرات" تحقق أساساً بالاعتماد علی المقاتلين السوريين من فصائل الجيش الحر، الذين ينحدر الكثيرون منهم من المدينة وجوارها، أو مناطق قريبة منها، ما يعني أن أحد النتائج الأساسية والمركزية لهذا التحرير هو عودة الجيش الحر إلى الواجهة، بعد أن عمل الغرب على تهميشه واجتذاب بعض الفصائل إلى مظلتهم وتحويلهم إلى أدوات في مشاريعهم في سوريا، ودفعهم بعيدا عن الهدف الأساسي الذي حملوا السلاح بسببه وهو حماية المدنيين من النظام، وساعد هذا الاستقطاب النظام بشكل كبير و حيّد قوة كبيرة عن مواجهته، وجمدها أو أدخلها في معارك ثانوية لا تخدم السوريين.
صورة نمطية
كذلك كسر تحرير جرابلس الصورة النمطية لعمليات "التحرير" التي انتشرت خلال الفترة الماضية من "تحرير" منبج أو "تحرير" تدمر أو حتى المدن العراقية المختلفة؛ فكل المدن السابق ذكرها سويت بالأرض تماماً، بعد أن قصفت لأشهر وبعضها استمرت حملات القصف عليها لأكثر من عام مثل مدينة الفلوجة، وبسبب القصف والتدمير، شهدت المدن "المحررة" تغييرا ديموغرافيا غير مسبوق منذ أيام التتار، الذين فرغوا مدناً بأكملها من ساكنيها ذبحاً وسبياً، فهذه المرة ليس الحشد الشعبي المشكل إيرانياً ولا الميليشيات الشوفينية الكردية المدعومة دولياً من احتل المدينة، بل أبناء المدينة والمقاتلون السوريون من بقية أجزاء سوريا حرروها بإسناد من دولة تدعم السوريين بشكل حقيقي.
يشكل تحرير جرابلس صورة للتحرير "الحقيقي"، فالسيطرة عليها هدفها إعادتها لأصحابها وليس طردهم منها، لذلك لم تدمر المدينة، وبدأت قوافل النازحين بالعودة لبيوتهم وأرزاقهم مباشرة بعد التحرير ولن يطول الوقت قبل انتعاش المدينة من جديد، خصوصاً إذا أصبحت مركزاً رئيسياً في الشمال السوري لحركة السوريين والبضائع من وإلى تركيا، ومنطقة آمنة محمية دوليا بعيداً عن براميل الأسد وصواريخ طائراته.
خبرة ضحلة!
العملية التي نفذت في جرابلس ستكون لها انعكاسات كبيرة إقليمياً، حيث ترتبط الكثير من القوى في المنطقة بداية بنظام الأسد مروراً بالميليشيات الكردية، وصولاً إلى الميليشيات المرتبطة جميعها بقوى كبرى داعمة ومشكلة لها أهمها إيران.
فعلى الرغم من أن الهدف المباشر للعملية هو طرد التنظيم من المنطقة الحدودية حتى الباب وربما حلب، لكن المستهدف الحقيقي هو الميليشيات الكردية التي تشكل تهديداً حقيقياً ووجودياً لسوريا قبل تركيا، حيث تلقت تلك الميليشيات ضربة صاعقة بتحرير جرابلس، وما تلاها من إعلان النية للمتابعة حتى منبج، بما يعنيه من زوال أي سبب لوجود ميليشيا PYD في منبج، والتي قد تجد نفسها في مواجهة مع الثوار بدون الإسناد الجوي "السخي" من التحالف الدولي، والتي اعتادت على طلب عشرات الغارات ضد أي قرية ترغب بتهجير أهلها، الأمر الذي لا يختلف أي محللين عسكريين على أنه يعني الهزيمة المؤكدة لتلك الميليشيا، والتي لن تستطيع احتمالها، خصوصاً إذا حصلت خسائر بشرية كبيرة، فهي ستكون المرة الأولى التي تدخل فيها هذه الميليشيات في مواجهات عسكرية حقيقية، قادرة على كشف حقيقة قدرتها العسكرية وفعالية مقاتليها الذين تشكل المراهقات والأطفال نسبة معتبرة منهم، أما البقية فمستوى تدريبهم سيء جداً، ولا يوجد أي شكل للعقيدة القتالية لديهم، ومجمل معاركهم السابقة لم تسمح باكتساب أي خبرة عسكرية، لأنها لم تكن معارك بل مجرد عمليات تنقيط أهداف لطائرات التحالف، ثم عمليات تهجير وتعفيش للبيوت المدمرة، وسيساهم القصف التركي لمواقعهم بهرب قسم من المرتزقة والعناصر من هذه الميليشيات وسيساهم في انفراط عقدها، فهي ستدخل مواجهات مختلفة عن كل ما سبق، في حين اعتاد مقاتلو الجيش الحر القتال بدون أي إسناد وحققوا الانتصارات، ما يعني أن الميليشيات الكردية الآن في وضع لا تحسد عليه.
ضحالة الخبرة العسكرية للميليشيات الكردية يؤكدها تاريخها وطبيعتها وبخاصة معاركها ضد الجيش الحر في ريف الحسكة، والتي على الرغم من الدعم الهائل بالأسلحة والذخائر من النظام، لكنها كانت تمنى بالهزيمة تلو الهزيمة أمام الثوار، وطفرة الانتصارات التي سببها الدعم الغربي الهائل يبدو أنها ستتوقف عند المواجهة الأولى بدون إسناد جوي غربي، وقد تكون هذه ضربة قاضية للميليشيات الكردية غربي الفرات، وصولاً إلى عفرين، التي لا يجب أن يستغرب أحد تحريرها من الميليشيات الكردية.
من جهة أخرى لن يكون استسلام أو اندحار الميليشيات الكردية بهذه السهولة، وقد تبدي قدراً من المقاومة، بخاصة بعد كم القتلى الذي خسرته للحصول على المدن التي استولت عليها، حيث ستجد قيادة هذه الميليشيات نفسها مجبرة على القتال، ليس من أجل الانتصار أو التشبث بالأرض الذي يعتبر مستحيلاً، بل فقط بهدف إيقاع خسائر في الجيش التركي والثوار، ومحاولة كسب الوقت بغية تدخل أمريكي يضغط على تركيا، ومنعا لانهيار الميليشيا، خصوصاً إذا انسحبت بدون قتال ولو بالحد الأدنى.
ما يدعم قدرة الميليشيات الكردية على إحداث إصابات في القوات التركية وقوات الثوار، هو الأسلحة المتطورة التي حصلت عليها من أمريكا والتي رفضت أمريكا تسليم بعضها لتركيا وسلمت بعضها بأعداد محدودة وبأسعار خيالية لبعض الدول، حيث تمتلك صواريخ مضادة للدبابات من أنواع متعددة مثل جافلين وتاو وميلان وغيرها، والتي استخدمتها لتدمير دبابة تركية البارحة السبت.
روسيا أمريكا أيران
الميليشيات الكردية ستكون المتضرر الأول من العملية والخاسر الأكبر، فهي مجرد ورقة بيد أمريكا تستخدمها للضغط على تركيا، وقد ترفعها بيد إيران في أي لحظة، على الرغم من شهر العسل الممتد لأكثر 35 عاماً بين الجمهورية "الإسلامية" والشيطان الأكبر، والتي دمرت أربعة دول بسبب حلفهما.
الأكراد بالنسبة لإيران خطر أكبر بكثير من عرب الأحواز، أو بلوش بلوشستان، الذين لا منقذ لهم ولا صريخ، حيث تستطيع أمريكا بكل بساطة تحريك الأكراد شمال إيران وغربها، فهي تملك مفاتيحهم كافة وتسيطر عليهم، وتمدهم بدعم لم تحصل عليه أي ميليشيا مدعومة غربياً قبلاً من أسلحة وذخائر وأموال ودعم جوي، ومظلة سياسية بحجة مكافحة "الارهاب"، ليكون ذلك مثالاً على العلاقة البراغماتية الواقعية بين أحزاب ماركسية "تقدمية"، والإمبريالية العالمية "الرجعية"!
كذلك لا تمانع إيران في تحجيم الأكراد واستنزافهم في سوريا، لذلك فهي لا تواجه مشكلة كبيرة في الضرب الذي سيتعرضون له، وبخاصة إذا أثر على قوتهم الكلية بدون أن يقضي عليهم، فهم بالنسبة لها كذلك أحد أجنحة القوة في سوريا، وخاصة بسبب توغلها فيهم عبر المئات من الأكراد الإيرانيين المنضمين للميليشيات الكردية في سوريا، حيث تظهر العلاقة بين الميليشيات الكردية نوعاً آخر من العلاقات البراغماتية بين حزب شيوعي معادي للأديان، والذي يعادي الإسلام بشكل خاص، ودولة دينية حتى النخاع، تعشعش فيها الخرافات ويحكمها أشخاص لديهم اتصال مباشر مع إلههم "عبر الهاتف".
روسيا التي تدعم الأكراد كذلك قد تسبب هذه الضربة الكبيرة لهم بعض الفتور من جديد في العلاقة مع تركيا، ولكنها لن تكون مؤثرة حقيقياً، فالداعم الأول والحقيقي لهم هو أمريكا، التي سمحت للروس بدعمهم بشكل ثانوي، لكن روسيا تحاول دعمهم بهدف اظهار مقدار من التحكم بهم يعلم الجميع أنه محدود وغير مؤثر على مستوى القرارات المصيرية المملوكة أساساً بيد الأمريكان.
جملة هذه الأمور تجعل من تمدد المواجهة لتشمل مواجهة مباشرة بين الثوار والميليشيات الكردية، يعني أن مشروع هذه الميليشيات غربي سوريا سوف ينهار ويتلاشى خلال فترة أقصر من سيطرتهم على منبج، التي استغرقت ثلاثة أشهر من القصف.
الأمر الذي سترتد آثاره وانعكاساته على المنطقة ككل، بداية بنظام الأسد الذي يسابق الزمن لتفريغ غرب سوريا من السنة سواء تهجيراً أو تشييعاً، وإيران التي لن يكون لها نفوذ في المناطق التي سيحررها الجيش الحر بدعم تركي، والتي لا يعرف أحد حقيقة المساحة التي قد تحرر بموجب هذا الدعم، والتي قد تمتد لتشمل مدينة حلب.
والمنطقة التي ستحرر كذلك ستسبب أرقاً كبيراً للأسد وإيران كذلك، فهو لن يكون قادراً على الهجوم عليها، ما يعني وجود منطقة محمية لأول مرة في سوريا، وهو التطور الخطير الأهم منذ كسر الحصار عن حلب، فالدعم التركي الذي إذا استمر بهذا الزخم فسيكون له أثر ممتاز على الوضع في سوريا ككل، وخصوصاً إذا ساهم في تحرير المدن التي احتلتها الميليشيات الكردية التي يبدو أن مشروعها الانفصالي تلقى ضربة كبيرة جداً مع تحرير جرابلس.