بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
مقدمة
أثار "بروتوكول موسكو" الملحق لاتفاق سوتشي الذي وقعته روسيا الاتحادية والدولة التركية في الخامس من شهر مارس/آذار الجاري بوصفهما العضوان البارزان في تحالف "آستانا" لدعم وقف إطلاق النار في إدلب، وإعادة توزيع مناطق نفوذهما في هذه المنطقة، جدلا واسعا في أوساط الرأي العام السوري. ولاقت بنود الاتفاق ردود أفعال شعبية غاضبة خاصة مع الحديث عن قيام روسيا بالإشراف على جنوب طريق m4، فيما تشرف تركيا على شمال الطريق المذكور.
وما من شك أن التوافقات على هذا قد تمت وأن بعض منها في الطريق إلى التنفيذ؛ فالإطلالة الهضبية لجبل الزاوية على الطرق الدولية تكتسب أهمية استراتيجية كبيرة لا ينافسها فيها منطقة أخرى، وهي بذلك تشبع غريزة التوسع والغايات الجيوسياسية لروسيا وتركيا فضلا عن غموض مآلات الحرب الدائرة واستعداد جميع الأطراف للمواجهة.
بنظرة سريعة إلى خريطة موقع جبل الزاوية، تتحدد هذه الأهمية وكيفية إثارتها للأطماع وإلى أي مدى يضطلع هذا الموقع بأدوار استراتيجية كبيرة على مدار التاريخ السوري الحديث والمعاصر، والعوائق التي شكلها أمام جحافل الغزاة والفاتحين.
الأهمية الجيوسياسية لجبل الزاوية
جبل الزاوية سلسلة جبلية تقع في إدلب السورية ويتألف من كتلتين، وأعلى قممه قمة النبي أيوب (939 م) وقمة جبل الأربعين (877 م )وبداية جبل الزاوية من الناحية الجنوبية الغربية بلدة كفرعويد التي يتجاوز ارتفاعها (1200م) الواقعة فوق سهل الغاب وبالقرب من جبل شحشبو، وعلى حوافه الجنوبية الغربية تقوم مدينة أفاميا الأثرية، أما إلى الشرق من حدود الكتلة الجبلية فتقع مملكتا إيبلا (تل مرديخ) وخالكيس (العيس) وتمتد الطرق الدولية على طول الجبل من الغرب إلى الشرق، حيث طريق m4 (حلب - اللاذقية) ومن الجنوب إلى الشمال طريق m5 (حلب - دمشق) بطول إجمالي 100 كم، ومن مدن جبل الزاوية الهامة (معرة النعمان- كفرنبل - أريحا) ويشاطره استراتيجيا ثلاث محافظات (حلب وحماة واللاذقية) ليشكل أرخبيلا كبيرا يمثل المساحة الأكبر بين المناطق المحررة الأخرى.
بناء على هذا الموقع، تتيح إطلالته الحاكمة للمناطق المجاورة مجموعة من المرتكزات الجيوسياسية المتنوعة مثل: (المدن الكبيرة، والتنوع الطبيعي، والقرب من الطرق الدولية، التي تمر عبرها قوافل التجارة)، التي تشكل مجتمعة ثقلا سياسيا وعسكريا وأمنيا في ميزان قوة الدولة السورية قديما وحديثا.
أنتج جبل الزاوية قديما وخلال العصر الحديث على الطرق الدولية مجموعة كبيرة من الخانات التي لعبت دورا بارزا في مجال التجارة الإقليمية والحج، وانتظمت هذه الخانات على امتداد الطرق الدولية المحاذية لجبل الزاوية، وكان من بينها: "خان السبل ومعرة النعمان وأريحا" في سياق هذه القيم، يأتي جبل الزاوية بوصفه أحد أبرز القيم المؤثرة في ميزان قوة المنطقة المحررة، لكنه لم يستغل بالقدر الذي يعزز موقعه الاستراتيجي الرادع للقوة الخارجية الطامعة.
جبل الزاوية بما يؤديه من دور استراتيجي، يمثل حلقة وصل بين الجنوب والشمال والغرب والشرق إلى جانب دوره العسكري الذي تعاظمت مكانته منذ انطلاق الثورة السورية نتيجة لعدد من التحولات التي شهدها الصراع على سوريا منذ العام 2011م، فأسهم بشكل فعال في تعزيز المواجهة ضد نظام الأسد، كما حدث في المعارك (2012- 2015) ومواجهة روسيا كلاعب رئيسي في الصراع على سوريا.
لقد لفت هذا الموقع الحيوي أنظار روسيا إلى ما قد يشكله من خطر على قواعدها العسكرية فيما لو بقي تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، فتصاعد التنافس بين موسكو وأنقرة إذ يمثل الجبل منطقة حساسة في الحزام البري لتواجد روسيا العسكري الذي يمتد من سراقب إلى خان شيخون جنوبا، ومن سراقب إلى جسر الشغور غربا، أما تركيا فكانت ولا تزال تنظر إلى منطقة إدلب كلها بوصفها مركز هيمنتها على الشمال السوري الذي سورته بمجموعة كبيرة من القواعد العسكرية.
يأتي اتفاق موسكو الأخير في الخامس من شهر مارس/أذار الجاري، ليشكِّل إضافة إلى أهميته في إطار مسار "آستانا"، دعامة قوية خاصة فيما يتعلق بأمن الطرق الدولية بوصفه أحد مرتكزات روسيا لتشغيل حركة الترانزيت، وهو ما يمكن أن تضطلع به أنقرة وموسكو بعد الاتفاق على تسيير دوريات مشتركة وعزل جبل الزاوية عن باقي المنطقة المحررة أو العمل على قضمه لاحقاً.
الأطماع الإقليمية والدولية
في إطار تعاقب الحقب التاريخية المختلفة ومع بلوغ جبل الزاوية مكانة استراتيجية كبيرة، لجأت امبراطوريات الروم والبيزنطيين إلى اتخاذ تدابير وإجراءات عملية صارمة بقصد احتلال الجبل بالقوة العسكرية، ويستدل على ذلك من خلال الآثار التي تحملها المستوطنات التاريخية الرومانية والبيزنطية المتناثرة على امتداد الجبل، وأورد عدد من المؤرخين ما قامت به تلك الامبراطوريات من تشغيل خطوط التجارة الدولية بين الساحل والداخل السوري، وقيام الفرنسيين بمحاولة إخضاعه والسيطرة عليه بالقوة العسكرية عام 1920، وإبقائه تحت سيطرتهم حتى عام 1946، وما قام به نظام الأسد الأب من مجازر ضد أهالي جبل الزاوية في عام 1980، وما أحدثه الأسد الوريث من دمار شامل لأغلبية مدن وقرى الجبل بين عامي (2012-2020م)، فضلاً عن قيام روسيا باحتلال القسم الأكبر منه بعد الحملة العسكرية الأخيرة.
المتتبع للتطورات التاريخية المتعاقبة التي مرّ بها الجبل، يلحظ مدى تنافس القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على سوريا، لأن غاية ما تسعى إليه روسيا من الاستيلاء على جبل الزاوية هو تأمين حركة التجارة عبر الطرق الدولية المحاذية له، واستغلال موارد هذه التجارة.
من هنا أدركت روسيا أهمية وضع يدها على هذه المناطق لتكون بمثابة قاعدة متقدمة لها من أجل حماية مصالحها، ودعما لنظام الأسد باعتباره القوة المشرعنة للاحتلال الروسي، لذلك قامت روسيا بارتكاب مجزرة بلدة بليون ضد الجنود الأتراك في إشارة إلى رسم حدود النفوذ في جبل الزاوية، وهذا ما يؤكد تركيز روسيا على هذا الجبل وهو آخر ما يتخلى عنه الغزاة عند طردهم من البلاد.
مآلات الأطماع الدولية والإقليمية في جبل الزاوية
بعد خمسة أعوام من تدخل روسيا لدعم نظام الأسد في سوريا، والتي بدأت عملياتها العسكرية في أواخر سبتمبر/أيلول 2015، يتجلى لمتابعي الأحداث تركيز اهتمام روسيا على الطرق الدولية والمناطق الجبلية انطلاقا مما تحققه هذه المناطق من أهداف جيوسياسية.
فمع الوصاية التركية على شمال طريق m4، وروسيا على جنوب الطريق وفق اتفاق موسكو، قد نكتشف مستقبلا استكمال روسيا لاحتلال ما تبقى من جبل الزاوية، وهي خطوة مؤجلة تنتظر التفاهمات التركية الروسية، حيث تتحدث موسكو عن منح أنقرة وقتا إضافيا لإنهاء ملف "المجموعات الراديكالية"، لكنها لا تعلن عن الخطوة التي ستعقب ذلك، مع ذلك كله يمكن القول إن التنافس (التركي –الروسي) على الطرق الدولية وجبل الزاوية يظل مقيد الصلاحية بحيث لا يتخطى مصالح كل دولة على حدا، ويمكن النظر إلى دخول طريق m4 ضمن اتفاق موسكو وما يترتب عليه من مستقبل تجاري وعسكري في ظل تزايد التنافس بين أطراف "آستانا" سيكون جبل الزاوية مرتكزا مؤثرا في المعادلات الاستراتيجية والجيوسياسية المختلفة التي تعكس نتائج التنافس بين أنقرة وموسكو مستقبلا، وقد يبدو التأثير الاستراتيجي لموقع جبل الزاوية وما يتصل به من الطرق الدولية العمل على بعثرة هذا التأثير وفق اتفاق موسكو المشبوه كمنطلق لحل الصراع الراهن في هذه المنطقة.