بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
رغم تحالف الضرورة الهش في أستانا، فإن جهود الثنائي الروسي والتركي، تركزت على الاستفراد بمكامن القوة، تحسبا لأي تصدع يصيب بنية التحالف الظرفي المثقل تاريخيا بصراع دام بين الطرفين، ولكن الحالة السورية وضعتهما ضمن تحالف تحكمه ظروف معقدة مغلفة ببراغماتية سياسية واقتصادية، رغم الاختلاف الاستراتيجي حول "المسألة السورية" وموقفهما من الثورة ومن نظام الأسد ومستقبل التحول السياسي السوري، تمكنت موسكو وأنقرة من التوصل لصيغة تفاهم مشتركة شكلت نوعا من العلاقات السياسية إثر التنازل المتبادل لدفع علاقاتهما النفعية إلى الأمام، بحسب ما يفرضه المشهد السوري من تغييرات ابتداء من التنازل في مدينة حلب وتبادل المصالح في مناطق خفض التصعيد "شرقي السكة وريف حمص والجنوب السوري" إلى حين تمكنت روسيا من قضم غالبية المناطق السورية وفرض أمر واقع أنتج "اتفاق سوتشي" بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في 17أيلول/سبتمبر الماضي، المتعلق بمنطقة خفض التصعيد الرابعة، وبات واضحا أن أطراف الصراع الثلاثة "موسكو وواشنطن وأنقرة" مختلفة في كل شيء متفقة على تقاسم النفوذ في سوريا وترسيخ حدود النفوذ والرضا بالحصص التي نالتها من "الذبيحة" السورية، فالحلف الروسي الذي يضم كلا من نظام الأسد وإيران استحوذ على ما يسمى "سوريا المفيدة" التي تضم العاصمة دمشق والجنوب السوري والمنطقة الوسطى امتدادا إلى البحر المتوسط والبادية السورية، فيما الولايات المتحدة مع أحلافها الأكراد هيمنوا على سلّة سوريا الغذائية وعلى منابع النفط. أما تركيا فقد فازت بالشريط الحدودي المشاطر لها من الجهة الجنوبية بأعماق مختلفة وضمنت ذلك باتفاقات مع الولايات المتحدة فيما سمي بالمنطقة الآمنة ومع روسيا باتفاق سوتشي من خلال المنطقة العازلة المتحركة باستمرار، بحسب ما تقتضيه مصالح الروس بالاتفاق مع الأتراك الذين يهمهم بالنتيجة التخلص من الهواجس الأمنية التي يشكلها الوجود الكردي في المنطقة الشطرية.
ويبقى الشعب السوري صاحب القضية في كل ما يجري ويدور خارج إطار المصالح الوطنية الذي ثار لأجلها.
تضارب استراتيجي
لم تتغير استراتيجية موسكو وحلفها باستهداف المناطق المأهولة بالسكان تارة بالطيران وأخرى بقذائف المدفعية، مما يشير إلى أن الاستراتيجيات المتضاربة بين تركيا ومن معها من قوى المعارضة السورية من جهة، وروسيا وأحلافها من جهة أخرى، سارت منذ التوافق الروسي التركي نحو تعقيد شديد، فيما يفترض حسب أهدافهما المعلنة في سوتشي دعم تطبيق هذا الاتفاق الذي يتغنى صانعوه بنجاة إدلب من مصير أخواتها غوطة دمشق والجنوب السوري وريف حمص الشمالي، لكن الاستراتيجية الروسية تركز على الجدول الزمني المرفق بالاتفاق المذكور الذي يقضي بإنهاء الوجود المسلح للمعارضة هناك. وهذا ما يؤكده استمرار التصعيد العسكري الروسي، الذي يشير إلى اتساع هوّة الخلافات بين أنقرة وموسكو حيال مجمل الأوضاع في شمال غربي سورية، وأن روسيا تسير وفق سياسة قضم المزيد من المناطق المحررة في عمق محافظة إدلب، على الرغم من التحرك التركي لإيقاف الحملة العسكرية المسعورة، ارتكب الطيران الحربي الروسي وذاك التابع للنظام مجزرة في مدينة معرة النعمان، حصدت أرواح عدد من الأطفال، ودفعت أغلب سكانها إلى النزوح، واستهدفت طائرات روسية، أول أمس الخميس، أطراف مدينة إدلب، بصواريخ شديدة الانفجار، بعد هجوم مماثل من الطيران الحربي الروسي، على قريتي معرشمشة والتح في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، أودى بحياة ستة أشخاص، بينهم نساء وأطفال. كما جددت طائرات النظام المروحية استهداف بلدات وقرى ريف إدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي. وتتعرض معرة النعمان التي تبعد عن مدينة إدلب نحو 40 كيلومترا، منذ بداية الحملة الروسية في أواخر إبريل/نيسان الماضي، لقصف جوي بشكل شبه يومي حصد العشرات من المدنيين، خصوصاً أن المدينة تضم عشرات آلاف النازحين من مناطق سورية مختلفة. ميدانيا أيضا، سيطرت قوات روسيا مدعومة بالمليشيات الإيرانية، على بلدتي الخوين شرقي والتمانعة شرقي خان شيخون، في مؤشر واضح على نيّتها المضي في سياسة قضم المزيد من المناطق المحررة الخاضعة لمنطقة خفض التصعيد. وتجلّت الخلافات الجوهرية بين الطرفين التركي والروسي حيال مجمل الأوضاع في شمال غربي سوريا، والتي لم يتمكنا بعد من حلها، بحسب ما تؤكد الوقائع الميدانية. ومما زاد الطين بلّة استهداف نظام الأسد، بدعم روسي، القوات التركية، وتهدّيد نقاط مراقبتها المنتشرة في مناطق خفض التصعيد، مما أشعل النيران في مسار العلاقات بين تركيا وبعض قوى المعارضة الذين يعولون عليها منذ بداية الثورة في سوريا.
محاصصة
تفاجأت أنقرة بموقف موسكو حيال الهجمة الشرسة على ادلب بعيداً عن التنسيق والتعاون القائم بينهما في سورية. ضاربة كل التعهدات والاتفاقيات مع أنقرة بعرض الحائط، مع تحميلها المسؤولية الكاملة لنتائج التطورات في إدلب لعدم التزامها بتنفيذ اتفاق سوتشي. ولكن ما لم تلحظه أنقرة، التقارب الروسي الأميركي سواء في قمة مجموعة العشرين، أو القمة الأمنية الثلاثية التي جمعت الروس والأميركيين والإسرائيليين في تل أبيب والتي خصصت للملف السوري. واتضحت نتائجها في الحملة العسكرية الروسية التي تؤكد التقارب بين موسكو وواشنطن على حساب أنقرة في سوريا، مما يتوجب على أطراف الصراع المحلية والإقليمية انتظار التفاهمات الحاسمة لتقاسم "الذبيحة" السورية.
في الآفاق المنظورة لتداعيات الحرب، في سوريا عموما، وفي محافظة إدلب على وجه الخصوص، ثمة ما يشير إلى أن الأطراف المتحاربة المحلية والإقليمية, تغلب مصالحها الخاصة على مصلحة السوريين، ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار سوريا ووحدة ترابها، لاسيما في ظل تنامي نزعات مناطقية تستقوي بالآلة العسكرية، التي أسستها ودعمتها الدول الإقليمية، علاوة على تفاهمات "حلف آستانا" وما تمخض عن هذا الحلف من تلاعب بالجغرافية والسكان، لتتحول البلاد إلى كانتونات مشيخية تذكر بعهد الاحتلال الفرنسي الذي قسّم البلاد إلى أربع دويلات (دولة الدروز في الجنوب,ط، ودولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين في الساحل السوري). ولكن هذه المرة تحت احتلالات متمايزة.
مناورة روسية
أعلنت روسيا بالنيابة عن نظام الأسد قرار وقف النار من جانب واحد على جبهة إدلب، ويأتي إيقاف القتال وفق سياق الاستراتيجية الروسية لتحقيق بعض الأهداف المرتبطة بالحملة العسكرية، ولم تكن المرة الأولى التي يكتنف الغموض المتعمد والسرية التامة الكثير من الاتفاقيات، ولكن هذه المرة تنتظر موسكو تنفيذ شروط وبنود اتفاقية سوتشي. وتدرك تركيا أن حليفها الروسي يضع إدلب ضمن دائرة سوداء, وبمقدوره توظيف قضية "الحرب على الإرهاب", والدفع بالمنطقة إلى حرب مفتوحة، ولعل الإعلام الموازي للروس سيقرع طبول الحرب، ويستجدي الغرب وقوى الإقليم للوقوف ضد "الإرهابيين"، ومنعا لهذه الدعوة التي قد تجد قبولا إلى حدّ ما، فالأتراك استبقوا ذلك بالإعلان عن نيتهم إنشاء عدد من نقاط المراقبة العسكرية الجديدة لـ"تثبيت وجودها، ومنع تقدم ميليشيات الأسد في المنطقة، ودعما للحل السياسي وتسريعه. كما أفادت شبكة "بلدي نيوز" بأن القوات التركية تنوي إنشاء نقاط مراقبة جديدة لها في المنطقة يعتقد أن عددها سيكون أربعا: واحدة بالقرب من مدينة سراقب، وأخرى بالقرب من مدينة أريحا (معمل القرميد)، إضافة إلى نقطة قرب بلدة محمبل، وأخرى في جسر الشغور.
وبعد فشل وقف العمليات العسكرية في ادلب، وتفاقم الخلافات بين روسيا وتركيا، انطلقت مظاهرات شعبية غاضبة وصلت إلى الحدود مع تركيا, حملت رسائل قوية تنذر من موجة نزوح هي الأضخم إلى أوروبا، شارك فيها آلاف السوريين طالبت بفتح معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا شمال إدلب، للضغط على السلطات في وقف العملية العسكرية المسعورة، ومنع تقدم الميليشيات الروسية باعتبار تركيا إحدى الجهات الضامنة لاتفاق خفض التصعيد، أو اجبارها على فتح أبوبها أمام موجة نزوح هي الأضخم منذ اندلاع الثورة السورية الى تركيا وأوروبا.
خاتمة
إن أبسط أخلاقيات الحرب والسياسة تلزم تركيا بإخطار فصائل المعارضة قبل دعوتها للانسحاب من أي منطقة أو نزعها للسلاح الثقيل توضيح الحدود المشمولة باتفاق سوتشي، ومن سيديرها ومن سيحميها، وألا تقبل الفصائل بتطبيق بنود الاتفاق دون وفاء الأتراك بتعهداتهم، ولكن على ما يبدو أن تركيا تحرص على ألا تفقد نفوذها في سوريا، وبالأخص محافظة إدلب المشاطرة لحدودها، والتي في حال استمرار العدوان الروسي عليها ستواجه موجات نزوح جديدة تثقل كاهلها اقتصاديا واجتماعيا، لذلك تعمل على تثبيت المنطقة العازلة بالتحرك دبلوماسيا لتأمين دعم أممي يرسي السلام في منطقة إدلب ومحيطها، تزامنا مع سعيها لإيجاد حل سياسي لتسوية وضع "هيئة تحرير الشام" ضمن إطار تشكيل "جبهة تحرير سوريا"، أو أي صيغة توافقية تمنع العدوان الروسي وأحلافه من تبرير عدوانهم بذريعة "محاربة الإرهاب" إلى أن تصل مختلف القوى الإقليمية والدولية إلى حدٍّ أدنى من التوافق على شكل الصيغة السياسية للنظام الجديد بسوريا.