بلدي نيوز – (أيمن محمد)
تمهيد
تتنازع محافظة إدلب مراكز قوى محلية، وأخرى إقليمية ودولية، لا يمكن لأي منها منفردة الاستئثار بالسلطة دون سواها مهما بلغت قوتها العسكرية، لذلك تتجلى بين الحين والآخر تفاهمات ظرفية، لا تلبث أن تسقط وتظهر بدلا عنها مشاريع جديدة تحاول جاهدة فرض نفسها وفق تحالفات محلية وتفاهمات إقليمية ودولية.
مقدمة
ما تشهده المنطقة المحررة شمال غرب سوريا مؤخرا، هو الحراك السياسي النشط الذي جمع غالبية القوى المسلحة والقيادات الاجتماعية العشائرية والدينية، برعاية "هيئة تحرير الشام" القوة الضاربة في محافظة ادلب، والتي تربطها علاقات معقدة مع المجتمع الدولي رغم فك ارتباطها عن تنظيم القاعدة قبل سنوات، وتحولها التدريجي من جبهة النصرة إلى فتح الشام فالهيئة، وفي نسختها الأخيرة تسعى "تحرير الشام" بحكم الظروف السياسية القائمة إلى مقاربات تتعلق بمسألة الحكم وتنظيم الإدارة في المناطق المحررة، قائمة على أساس تشاركي بعيدا عن الايديولوجيات الشمولية.
لم يكن النشاط السياسي الجاري، سوى محصلة لتفاعلات عسكرية وسياسية سابقة ومتعددة، جمعت قوى مختلفة وفق رؤية "تحرير الشام" التي وضعت خططا يجري العمل على تنفيذها كما يلي:
المرحلة الأولى: تشكيل غرفة عمليات واسعة في المنطقة العسكرية المحررة، تجمع كل فصائل المعارضة في إدلب ومحيطها، بما فيها التنظيمات الجهادية، وتتبع جميعها لإدارة موحدة، تشبه "وزارة الدفاع" تتبع شكلياً لـ "حكومة الإنقاذ"، يترأسها أبو محمد الجولاني وتنضوي الفصائل في جيش واحد هو "جيش الدفاع" ويكون قائده رئيس أركان الجيش الوطني، العقيد فضل الله الحجي أبو يامن والذي يشغل منصب القائد العسكري العام في "فيلق الشام" أيضا، على أن يكون العتاد والذخائر ملك لغرفة العمليات الجديدة، ولا يحق لأي فصيل الخروج منها، ويجب الالتزام بقراراتها في السلم والحرب.
المرحلة الثانية: دعم ومساندة حكومة "الإنقاذ" وتوسيعها لتشمل كل المنطقة المحررة وتتبع لها كل المجالس المحلية، والعمل على تمكينها في مختلف المناطق، وفصل الإدارتين العسكرية والمدنية، بحيث تكون مهام الإدارة العسكرية منوطة بحفظ الجبهات وردّ عدوان نظام الأسد، واختيار شخصية سياسية منشقة بارزة لتتسلم "حكومة الإنقاذ" تكون مقبولة محليا وإقليميا ودوليا.
المرحلة الثالثة: فتح الطرق الدولية الرابطة بين حلب وحماة وحلب واللاذقية وفق مرجعية سوتشي، وتكون حمايتها منوطة بـ "وزارة الداخلية" في حكومة الإنقاذ.
وفي هذا الإطار، تولت حكومة الإنقاذ النشاط المدني، بعدما كسبت "هيئة تحرير الشام" المواجهات على مستويات مختلفة، عسكرية وأمنية وسياسية وجغرافية، وبدت أقوى قوة مسلحة في المنطقة المحررة؛ فاستثمرتها "الإنقاذ" من خلال اللقاءات التي قام بها رئيس "الإنقاذ" فواز هلال، وعدد من أعضاء حكومته مع المجالس المحلية، والوجهاء المحليين، وشيوخ العشائر في مناطق ريف حلب الغربي، وضواحي حلب الشمالية، ومختلف مناطق إدلب وريف حماة الشمالي.
فاقترن نشاط "الإنقاذ" داخلياً على القيام بإجراءات تنفيذية أمنية واقتصادية كـ "فرض الرسوم والضرائب على البضائع، وتسجيل السيارات، وإغلاق المعاهد والجامعات غير المرخصة".
ويبدو أنّ تجارب الاقتتال الداخلي التي طحنت المنطقة المحررة، خلال السنوات الأخيرة، وما رافقه من عدوان همجي دفع أطراف الصراع الداخلي للتعامل مع الأزمات القائمة بما يتناسب والظروف المحلية والإقليمية والدولية، ولعلّ ما يدلل على ذلك، الزيارة التي قام بها أعضاء من حكومة "الإنقاذ" ومن "الهيئة التأسيسية للمؤتمر السوري العام" ومقربون من "هيئة تحرير الشام"، إلى تركيا ولقاءهم في إسطنبول وأنقرة، بشخصيات معارضة ومسؤولين أتراك، للاتفاق حول رؤية مشتركة لمستقبل المنطقة المحررة.
ويظهر أن المشروع المطروح من "تحرير الشام" مغرٍ للفصائل الأخرى رغم ضآلة أدوارهم في المنطقة المحررة، ولعل فيلق الشام الذي يقود "الجبهة الوطنية للتحرير" سيكون له الدور الأكبر في المشروع الجديد، إذ تشير التسريبات إلى أن "الفيلق" سيقود المجلس العسكري الموحد.
حكومة واحدة.. وجيش موحد
في تطوّر جديد لمشهد الأحداث الدائرة في المنطقة المحررة، كشفت مصادر مطلعة أن هناك اجتماعات سرية موسعة جرت بين جميع الأطراف المدنية والعسكرية خلال الأيام الماضية، ركزت في مباحثاتها على مستقبل المنطقة وتنظيمها بجيش واحد وحكومة مدنية واحدة، بعد حل الحكومتين (المؤقتة والإنقاذ)، وإعطاء صلاحيات واسعة لهذه الحكومة لتتولّى إدارة المنطقة جهة مدنية يدعمها الجيش الموحد الجديد.
وأضافت المصادر، أن الاجتماعات ناقشت آلية حل هيئة تحرير الشام ودمجها بالجيش الجديد، مع بعض الإجراءات المتعلقة بالمعارضين من صفوفها لفكرة التوجه الجديد لجميع الأطراف في المنطقة، كما ناقش المجتمعون التعاون بشأن دخول أرتال عسكرية من الجيش التركي لتثبيت نقاط جديدة في محافظة إدلب لمنع قوات النظام من التقدم إليها.
وتابعت المصادر "في الأشهر القادمة سيتم مناقشة الخطوات الأخيرة بخصوص دمج هيئة تحرير الشام وانضمامها بشكل كامل وبكافة العتاد والسلاح مع التشكيل العسكري الجديد، وبقاء عناصرها على خطوط الجبهات مع التعهد من الجيش الحر وهيئة تحرير الشام بعدم حصول صدام فيما بينهم".
وختمت بالقول، إن الشهر السادس من العام الحالي سيحمل كل ما يتمناه المدنيون بإدارة مدنية واحدة تدعم تطلعاتهم، إضافة لجيش واحد يدفع عنهم خطر النظام وحلفائه.
في المقابل، قال مصدر من هيئة تحرير الشام لبلدي نيوز، "في الأيام القادمة سيتم تحجيم العسكرة بشكل كامل، وترك إدارة المنطقة لحكومة جامعة مدعومة من جميع الفصائل، فيما رفض التعليق على موضوع اندماج الفصائل أو تحديد هوية الحكومة الجامعة.
معوقات ذات بعد أمني
في هذا البُعد تبرز الجماعات الأصولية المسلحة كعقبة أمام المشروع المطروح للتباحث، مما يترتب عليه انتشار الفوضى الأمنية وتمدد آثارها لتمس أمن وسلامة المنطقة المحررة، في حالة المواجهة مع التنظيمات الجهادية العاملة في غرفة عمليات "وحرض المؤمنين" والتي يتزعمها تنظيم "حراس الدين" التابع لتنظيم القاعدة، أو بروز جماعات مسلحة أخرى ترفض الانصياع لما يخالف إيديولوجيتها.
ومع الحديث عن مشروع تنظيم المنطقة المحررة بجيش موحد يضم جميع الفصائل في غرفة عمليات واحدة بقيادة فيلق الشام، ودعم حكومة الإنقاذ، اقترانا بتطبيق اتفاق إدلب، ومنها إعادة فتح الطرق الدولية، مقابل تجنيس المهاجرين، وتسجيل سياراتهم ووضع لوحات تعريفية، عاد التوتر من جديد مع التنظيمات الجهادية إثر لقاءات متعددة، جمعت بين قيادة "تحرير الشام" العسكرية، وقادة من "غرفة عمليات وحرض المؤمنين", فأعلن "حراس الدين" عن رفض عرض "تحرير الشام"، وأصدرت قيادة "الحراس"، في 31 كانون الثاني/يناير الماضي، بياناً أعلنت فيه رفضها بشكل قاطع للعرض المقدم، وبصدمتها من تفاصيل العرض الذي "يضمن لتركيا السيطرة الكاملة على قرار المعارضة ويساهم في تثبيت النظام من خلال فتح الطرق الدولية، وأن الوقت، هو وقت إرهاق النظام اقتصادياً وقطع طرق الإمداد عنه. ووقت توحيد جهود كل مسلم نحو مشروع واحد، هو كسر شوكة النظام عسكرياً، لا الانشغال بمشاريع تقتل الروح الجهادية في النفوس". البيان صدر عن القائد العام لـ "الحراس" أبو الهمام الشامي، ونائبه الأردني سامي العريدي، الشرعي السابق في "جبهة النصرة".
وشنّ "الحراس" هجوماً عنيفاً على "تحرير الشام"، وطالب بالسلاح والعتاد الذي سيطرت عليه "تحرير الشام"، عندما انشقوا عنها. وتداول أنصار "الحراس" قضية فك ارتباط "جبهة النصرة" بتنظيم "القاعدة"، وركزوا هجومهم على أبو محمد الجولاني.
وطالب "الحراس" شخصيات "جهادية عالمية"، للقضاء بينهم وبين "تحرير الشام" من أمثال الصادق الهاشمي، وأبو عمر الحدوشي، ونائل بن مصران، وأبو محمد المقدسي، وهاني السباعي، وأبو قتادة الفلسطيني، وطارق عبد الحليم، وأبو عبدالله الصادق الهاشمي، ونائل بن غازي.
وعلى خلفية هذه التطورات، أعلن أبو اليقظان المصري، الشرعي العسكري في "تحرير الشام" استقالته منها. فيما قالت "تحرير الشام" إن أبو اليقظان استقال "بسبب إدانته قضائياً في الإضرار بالجماعة"، بالإضافة لاعتراضه على التعميم الذي أصدرته قيادة "تحرير الشام" الذي يمنع القادة والشرعيين والعناصر من التصريح وإصدار الفتاوى والتحدث للإعلام دون الرجوع للقيادة.
استراتيجية "تحرير الشام" لمواجهة الرافضين
في ضوء التطورات السابقة؛ فإن الملاحَظ على استراتيجية "تحرير الشام"، أنها تسير وفق اتجاهين متوازيين، هما: اتخاذ تدابير أولية لمواجهة المعوقات عبر استراتيجية "الاحتواء الناعم" والذي يسعون من خلالها للتفاهم عبر الحوار مع المعترضين وإيجاد حلول لهم.
والاتجاه الآخر، خوض المواجهة المسلحة بأسلوب التفتيت الاستراتيجي وتقوم " تحرير الشام" بمعاقبة المعترضين وتحديدا "حراس الدين"، وهو ما بدا عملياً إثر اعتقال القيادي في التنظيم، أبو تراب الليبي ومرافقه أبو محمد الحموي، وقالت مصادر محلية من مدينة كفر زيتا لبلدي نيوز؛ إن دورية مؤلفة من عدة سيارات تتبع لهيئة تحرير الشام، اعتقلت المدعو "أبو تراب الليبي" أحد مسؤولي المعاهد الشرعية التابعة لتنظيم حراس الدين، بالإضافة لأحد أقارب زوجته، وصادرت سيارته وسلاحه واقتادته خارج المدينة، وأفرجت عنه في اليوم التالي، ولم تكن اعتقالات قادة من القاعدة أمر مستحدث، فقد سبق ذلك اعتقال العريدي وأبو جلبيب الأردني، لمحاولتهما الخروج من مناطق نفوذ الهيئة باتجاه الجنوب السوري، كما احتوت الهيئة تمرد بعض المهاجرين.
المرصود من التدابير المتخذة؛ في أجواء التوتر الحاصل بين الجهتين، حصول اشتباك بينهما في قرية المغارة بالقرب من مدينة أريحا في جبل الزاوية بدون أن تتوسع رقعته أو تمتد إلى باقي المناطق لاحتواء "تحرير الشام" له.
إلى ذلك تجري التهيئة لمواجهة المعترضين والمشاغبين على سياسة "تحرير الشام" بعد أن طردت حركة نور الدين الزنكي وحجمت "أحرار الشام" و"صقور الشام" بشكل كبير، بات "حراس الدين" الخطر الأكبر الذي يواجهه؛ فالتنظيم يشكل نواته الصلبة فلول "جند الأقصى" ويتزعمه القيادة العسكرية والشرعية المؤسسة في "جبهة النصرة".
خلاصة
يبقى تطبيق مشروع إدارة المنطقة المحررة منوطا بالمواجهة القائمة بين " تحرير الشام" بزعامة قائدها الجولاني، والتنظيمات الجهادية الأخرى. ويبدو أن خيار الحسم العسكري لتقرير مصير المنطقة المحررة، بات راجحًا، وفقًا لما تم عرضه أعلاه، سواء بخيار القوة أو بالخيار السياسي الذي لا يتعارض مع هذه الغاية.
في ظل هذا الخيار، تجدر الإشارة إلى أن "هيئة تحرير الشام"، لن تتولى وحدها تنفيذ سيناريو تنظيم المنطقة المحررة، فهنالك ما يشير إلى مشاركة متوقعة للتشكيلات العسكرية المعارضة كفيلق الشام الذي ستُوكَل إليه مهام معينة في سياق ما يجري تداوله في المنطقة المحررة كما قد يكون هنالك دور مسنود للجيش التركي، لحسم المعركة في حال وقوعها، وذلك من خلال التخطيط وأشكال الدعم اللوجستي الأخرى.