بلدي نيوز – (متابعات)
رأى الباحث السوري، ساشا العلو، في ورقة بحثيه له على مركز عمران للدراسات، إن ما تقوم به قوات النظام وموسكو في الغوطة مغامرة سياسية وعسكرية تستند إلى افتراض النظام بأنه الأقوى على الأرض بعد التقدم الذي أحرزه في إدلب ودير الزور، مستفيداً من فائض القوى الذي ولدته اتفاقات خفض التصعيد، وافتراض روسي مقابل باستمرار الولايات المتحدة في سياساتها المضطربة تجاه الملف السوري واقتصار دورها على شرق الفرات، الأمر الذي يمنح موسكو المساحة الأكبر في ترتيب الأوضاع على الأرض بما يتناسب مع مصالحها ورؤيتها للحل السياسي.
وشدد الباحث "العلو" في ورقته البحثية على أنه، يمكن الاستدلال على عامل المغامرة في هذه العملية من خلال مجموعة نقاط:
غياب الذريعة
تجلت ذريعة النظام وموسكو المعلنة للهجوم على الغوطة بوجود عناصر تتبع هيئة "تحرير الشام" في بعض مناطق الغوطة، ولكن إعلان فصائل الغوطة استعدادها لإخراج هذه العناصر أحرج موسكو، والتي عطّلت بدورها التفاوض حول خروج هؤلاء العناصر؛ لتتحول الذريعة إلى استهداف المدنيين في العاصمة دمشق بالقذائف من قبل فصائل المعارضة، وهو الأمر الذي يشير إلى مأزق موسكو في تغطية عملها العسكري وتقديم مبررات مقبولة لدى المجتمع الدولي لاستمرار حملتها على الغوطة وما ينتج عنها من مجازر يومية، خاصة وأن حجة "الإرهاب" لا تجدي نفعاً في حالة الغوطة، والتي تعترف موسكو بفصيليها الأقوى (جيش الإسلام- فيلق الرحمن)، حيث وقّعت معهما تتابعاً اتفاقاً اعتبرت بموجبه الغوطة منطقة خفض تصعيد. ولعل غياب الذريعة هو ما شكّل عاملاً مساهماً في تقوية المواقف الأمريكية الأوروبية ضمن مجلس الأمن، ودفع الدبلوماسية الروسية لتجنب المزيد من العزل الدولي في أروقة الأمم المتحدة، عبر عدم استخدام الفيتو في وجه القرار (2401)، مقابل تمريره بعد الالتفاف عليه وإفراغه من مضمونه وعدم الالتزام بتطبيقه.
المقاربة الخاطئة
مقابل غياب الذرائع، فإن إشارة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ومندوب النظام في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، لإمكانية تطبيق سيناريو حلب في الغوطة الشرقية؛ يبدو مقاربة خاطئة وغير مدروسة، وذلك وفقاً لعدة عوامل تصب في صالح الغوطة لناحية عدم إمكانية سحب سيناريو حلب عليها، ولعل أبرز تلك العوامل:
المساحة والجغرافية: حيث تمتد الغوطة الشرقية على مساحة 110 كم2، في حين اقتصرت مساحة الأحياء الشرقية لحلب في السيناريو الشهير على 3كم2، بالإضافة إلى أن جغرافية الغوطة تتشكل من مدن وبلدات متفرقة ومترامية ومساحات مفتوحة من الأراضي الزراعية بشكل يضطر النظام إلى خوض نوعين من المعارك، وهي حرب المدن والحرب النظامية في المساحات المفتوحة، الأمر الذي قد يزيد من خسائر قواته ويجعل الغوطة منطقة أكثر صعوبة من معارك أحياء حلب الشرقية، وهذا ما تدل عليه خسائر النظام الكبيرة في حملاته الثمان السابقة على الغوطة منذ العام 2012.
السكان: يعيش في الغوطة الشرقة الآن ما يقارب 400 ألف نسمة من المدنيين المحاصرين منذ العام 2013، بشكل جعلهم يطورون بدائل محلية مستندة إلى خبرتهم كمزارعين، الأمر الذي يجعل الحصار أخف وطأة عليهم من حلب الشرقية، إضافة أن لا توجد اليوم منطقة سورية تحتمل هذه الكتلة البشرية في حال هُجّرت.
المقاتلون: لا يزيد عدد المقاتلين في الغوطة الشرقية كثيراً عن نظرائهم في حلب الشرقية، حيث تتراوح التقديرات بين 8000- 10000 آلاف مقاتل، ولكن الفارق في أن المقاتلين في الغوطة هم أبناء المنطقة بكتلتهم الكبرى، مما يزيد في تعزيز عامل الدفاع عن أرضهم وعوائلهم، إضافة إلى أن تنظيمهم وتسليحهم وخبراتهم القتالية تعد أفضل مما كانت عليه فصائل حلب، فالفصائل الثلاثة الكبرى في الغوطة (جيش الإسلام، فيلق الرحمن، أحرار الشام) أظهرت مرونة تفاوضية منذ بداية الحملة العسكرية وتنسيقاً عالياً في صد الهجوم البري، حيث دخلت في غرفة عمليات مشتركة متجاوزة خلافاتها السابقة، ناهيك عن اعتمادها على الإنتاج الذاتي للأسلحة والذخائر التي تحتاجها، مما يمنحها القدرة على المقاومة طويلة الأمد، والأهم من ذلك هو صعوبة إخراج هذا العدد من المقاتلين المدربين والمنظمين إلى أي من جبهات المعارضة الأخرى، إذ سيؤدي ذلك إلى اختلال في موازين القوى مع النظام في تلك الجبهات المحكوم أغلبها باتفاقات أمنية إقليمية ودولية، بالإضافة إلى اختلال توازن القوى القائم بين الفصائل المهيمنة على الجبهات بشكل قد يدفعها إلى رفض استقبال كتلة عسكرية كهذه، يصعب السيطرة عليها و تطويعها ضمن فصائل أخرى.
الفاعلية الإقليمية: تعتبر الغوطة جغرافية داخلية غير حدودية مع أيّ دولة، الأمر الذي يعدُّ عاملاً هاماً يمنح فصائلها مساحة أكبر نسبياً في التحرك الدبلوماسي والمواجهة العسكرية بعيداً عن التأثير الإقليمي المباشر، والذي كان عاملاً حاسماً في سقوط أحياء حلب الشرقية، ورغم من وجود داعمين إقليميين لفصائل الغوطة؛ إلا أن النشاط الدبلوماسي والسياسي منذ بدء مسار أستانا يُظهر بوضوح المساحة الأوسع نسبيّاً من القرار الذاتي التي تتمتع بها قيادتا جيش الإسلام وفيلق الرحمن بعيداً عن الهيمنة الإقليمية المباشرة، والخاضعة لها غالبية الفصائل في الجبهات الشمالية والجنوبية.
رد الفعل الدولي
يبدو أن اختيار موسكو لتوقيت العملية العسكرية ضد الغوطة الشرقية؛ عبّر بشكلٍ أو بآخر عن سوء تقدير من قبلها لجدية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بخصوص سوريا، والتي أعلن خطوطها العامة وزير الخارجية الأمريكية، ريكس تيلرسون، قبل شهر تقريباً من بداية الحملة على الغوطة، والتي تعتمد على تطويق النفوذ الإيراني وبناء مستقبل سوري من دون الأسد، ما يعني استهداف حلفاء موسكو بشكل يقوض من فاعلية الدور الروسي في سوريا، وذلك عبر عودة الثقل الأمريكي الأوروبي الذي كان منشغلاً في فترة حرب تنظيم الدولة، لذلك أسفرت الحملة العسكرية على الغوطة عن ردود أفعال أمريكية أوروبية معارضة وغير مسبوقة، تراوحت بين الضغط الدبلوماسي عبر مجلس الأمن و التواصل المباشر مع موسكو وصولاً إلى التلويح بالقوة العسكرية في حال تم استخدام السلاح الكيماوي، الأمر الذي يمكن أن يُفسّر كإثبات لجدية واشنطن وأوروبا في العودة بقوة للانخراط في الملف السوري وعدم السماح لموسكو بالتفرد في المناطق السورية الواحدة تلو الأخرى.
وأشار الباحث إلى أن واقع الحراك الدولي -الأمريكي الأوربي- تجاه الحملة الروسية على الغوطة، وما تبعه من حملة إعلامية دولية وحراك مدني سوري في مختلف عواصم العالم؛ يشر إلى أن موسكو ونتيجة لمغامرتها غير المحسوبة قد وقعت في فخ التحول المباشر إلى طرف في الأزمة السورية بدلاً من فاعل دولي مساعد في الحل، وهو الدور الذي لطالما حاولت موسكو الإيحاء به، إضافة إلى تورط حليفها النظام في معركة طويلة الأمد قد تشكل حرب استنزاف لقواه وتعيد للعالم صورة النظام الدموي الذي يقتل شعبه، والتي حاول النظام وحلفاءه إخفاءها خلف ستار "حرب الإرهاب". وبذلك تكون موسكو لم تنجح في تحقيق نصر سريع يُستخدم في استكمال صورة المنتصر التي يريدها الرئيس، فلاديمير بوتين، قبيل الانتخابات الروسية في الثامن عشر من الشهر الجاري، بل ووضعت نفسها بين فكي كماشة أمريكية أوروبية تتيح لهم الفرصة للضغط على موسكو وتصفية الحسابات الموزّعة على عدة ملفات عالقة بين الطرفين، الأمر الذي يُعَدُّ مؤشراً على أن ملف الغوطة الشرقية قد تجاوز حدودها الجغرافية إلى صراع دولي.
المشهد السوري الجديد (ما بعد الإرهاب)
يبدو أن نشوة "الانتصارات" التي حققها تدخل موسكو العسكري في سوريا قد غيّبت عن العقل الاستراتيجي الروسي حقيقة مفادها أنَّ؛ لحظة الانتهاء من حرب تنظيم الدولة كانت لحظةً حاسمةً ولها تداعيات كبرى على الملف السوري، أولها: نهاية مسمى "الأزمة" بانحسار أثارها الدولية والإقليمية وعلى رأسها "الإرهاب"، مما يعني عودة مفهوم "الثورة" ببعده الدال على المواجهة بين النظام السوري وشعبه.
وثانيها: بأن فراغ الولايات المتحدة وتحالفها الدولي من حرب الإرهاب حملَ ضمناً رسالةً مفادها؛ نهاية التفويض الأمريكي لموسكو بالتحكم بالملف السوري، واستخدام واشنطن لوجودها العسكري على الأرض السورية باتجاه موازنة القوة مع موسكو وطهران، وهو ما بدأت تظهر مؤشراته بوضوح مع مطلع العام 2018، والتي تمثلت في إعلان استراتيجية الدفاع الأمريكية الجديدة المتمحورة حول احتمال المواجهة مع روسيا والصين، ووضحت أكثر ضمن خطاب وزير الخارجية الأمريكية، ريكس تيلرسون، في جامعة ستانفورد، والذي استعرض فيه الرؤية الأمريكية في سورية ما بعد تنظيم الدولة، حيث أكد على نية واشنطن الاحتفاظ بوجودها العسكري في سورية لمواجهة بقايا تنظيم الدولة والنفوذ الإيراني، وعدم تكرار خطأ العراق بالانسحاب، إضافة إلى استبعاد وجود الأسد في مستقبل سورية ودعوة موسكو للتعاون لإعادة الهدوء لمناطق خفض التصعيد".
بالمقابل شهد شهر شباط/ فبراير تصعيداً عسكرياً أمريكياً روسياً، من جهة، في دير الزور وتمثل في الضربة الأمريكية لمليشيات النظام ومرتزقة روس حاولوا تجاوز الخط الأحمر الأمريكي للعبور إلى شرق الفرات. إضافة إلى تصعيد إيراني إسرائيلي، من جهة أخرى، تمثل في إسقاط الطائرة الإسرائيلية في سورية، ثم تمت ترجمة التوتر العسكري في سورية بشكل تصعيد كلامي في "مؤتمر ميونخ" للأمن، حيث هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتحرك العسكري ضد طهران إذا لزم الأمر([5])، كما كشفت الخُطب في ذات المؤتمر عن مدى تعقد المشكلات العالقة بين موسكو وحلف شمال الأطلسي، بدءاً من شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي في شرق أوكرانيا، إلى تورطها بالانتخابات في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبية، مروراً بدعمها نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وصولاً إلى امتناعها عن الالتزام بمعاهدات خفض التسلّح، وحشدها مزيداً من القوات في شمال غربي روسيا وجيب كاليننغراد، ما يشكّل تهديداً لأمن دول البلطيق والبلدان الإسكندنافية([6]).
ويبدو أن تفاعل تلك المتغيرات المتسارعة على الصعيد الاستراتيجي الأمريكي خصوصاً والناتوي عموماً، لم يكن في حسابات موسكو، والتي لجأت في محاولة لاستدراك آثاره إلى تحرك ورد فعل سريع في الغوطة الشرقية يحقق لها عدة أهداف في هذا الإطار، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال عدة مؤشرات:
"شيطنة الغوطة": والذي تجلى في المناخ السائد في موسكو بين أوساط خبراء سياسة الشرق الأوسط ومراكز الدراسات المقربة من دوائر صنع القرار قبيل بدء الحملة على الغوطة، واعتبارها "نقطة تواجد أمريكية من حيث التسليح ودعم الفصائل"، وأن أولوية روسيا الاتحادية يجب أن تكون إخراج الأمريكان من محيط دمشق، حيث أنتج هذا المناخ عملية إعلامية ضخمة لشيطنة الغوطة لدى النخبة الروسية والرأي العام كمقدمة لتبرير التدخل العسكري للسيطرة عليها.
عملية انتقامية: يمكن القول بأن موسكو تستثمر العملية العسكرية في الغوطة للرد على الضربة الأمريكية في دير الزور، والتي أودت بحياة 200 من المرتزقة الروس في خسارة تعادل خمسة أضعاف خسائر موسكو منذ تدخلها في سورية 2015، وبالرغم من الإنكار في البداية ومن ثم الصمت عن الحادثة الذي انتهجته موسكو؛ إلا أن محللين روس اعتبروا الحادثة " أول اشتباك بين القوتين منذ حرب فيتنام، وأنها فضيحة كبرى وسبب لأزمة دولية حادة، ولكن روسيا ستتظاهر وكأن شيئاً لم يحدث".
تسويق السلاح: إن فتح جبهة جديدة في سورية يتيح لموسكو فرصة لتسويق أسلحتها الجديدة، وهو نهج اعتمدته روسيا منذ بداية تدخلها العسكري في سورية، حيث جرّبت حوالي 200 نوع سلاح جديد، إذ تحتاج موسكو حملة تسويقية جديدة في سورية لأسلحتها بعد فضيحة فشل منظومة S400 في حماية قاعدة حميميم من هجوم بالقذائف أدى إلى تدمير سبع طائرات في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وسقوط إحدى طائراتها في إدلب ومقتل الطيار مطلع شباط/ فبراير الفائت، الأمر الذي دفع موسكو لاستخدام طائراتها الأحدث من الجيل الخامس "الشبح" في الغوطة بالرغم من أنها لم تنهي اختباراتها بعد، هذا الاستخدام الذي تبعته تصريحات الرئيس الروسي حول تطوير صواريخ بالستية جديدة تحمل رؤوس نووية قادرة اختراق أنظمة الدفاع الجوي الأمريكي، في إعلان عن سباق تسلح جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ورأي الكاتب أنه في هذا المناخ المتوتر بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية يمكن أيضاً فهم تفرّد موسكو بعملية الغوطة الشرقية، وتجنبها لحضورٍ إيرانيٍ واضح وفعَال بناءً على عاملين:
- رغبة موسكو باستعراض قوتها منفردة كند لواشنطن وتثبيت مناطق نفوذ خالصة لها دون تواجد إيراني.
- تجنب هذا التشنج الإقليمي والدولي اتجاه إيران وسلوكها في المنطقة، والاحتمالات المتزايدة للتحرك العسكري ضدها.
كما يمكن من خلال العلاقة مع روسيا تفسير مواقف الدول الأوروبية المتصدرة للحراك الدبلوماسي في مجلس الأمن ضد عملية موسكو في الغوطة الشرقية، فبالإضافة إلى الملفات المعلقة بين الناتو وروسيا، تشتعل حرب إعلامية بين موسكو وبريطانيا حول دعم الأخيرة للدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، والذي تعتبره موسكو منظمة "إرهابية"، وتدير في هذا الإطار حملة إعلامية دولية كشفت تفاصيلها صحيفة الغارديان البريطانية.
بشكل جعل الطرفان في مواجهة إعلامية ودبلوماسية حول سلوكهما في سورية. كما يزيد من الحراك الألماني تجاه ما يحدث في الغوطة، إضافة إلى مشاكلها الناتوية مع موسكو، شعورها بالحرج الأخلاقي إزاء ملف استخدام الكيماوي في الغوطة، خاصة بعد ما نشرته صحيفة "ديرشبيغل" الألمانية حول تورط شركات ألمانية في تصدير أجزاء من الصواريخ التي ضُربت بها الغوطة في العام 2013. أما السويد فتجد في الهجوم على الغوطة فرصة لإدانة موسكو، والتي أدى التوتر بينهما نتيجة النشاط الروسي في البلطيق إلى احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية نهاية العام 2016([15])، في حين تلتزم فرنسا وإدارة ماكرون بالخط الأحمر الذي وضعته الإدارة السابقة فيما يخص استخدام القوة في حال حدوث هجوم كيماوي في سورية. أما المواقف العربية الخجولة والمقتصرة على تصريحات بخصوص الوضع الإنساني، فيمكن فهمها في إطار الانشغال بالنفوذ الإيراني في سورية، والحشد الدولي لمواجهته، وعليه تفضل الدول العربية وعلى رأسها الخليجية عدم المواجهة مع موسكو، خاصةً في ظل استمرار الأزمة الخليجية، ولذلك يمكن اعتبار المبادرة المصرية مجرد محاولة لذر الرماد في العيون وإخلاء المسؤولية بوصف مصر أحد الضامنين لاتفاق خفض التصعيد في الغوطة.
ويقول الكاتب أنه من خلال استعراض طبيعة الحملة العسكرية التي تقودها موسكو والنظام على الغوطة الشرقية وتحليل المناخ الدولي والإقليمي المحيط بها، مقابل استعراض نقاط القوة الداخلية للغوطة، يمكن التوصل إلى النتائج التالية:
1- خيار روسي: يبدو أن قرار الهجوم الحالي على الغوطة الشرقية لم يكن للنظام السوري بقدر ما كان خياراً روسياً يستهدف واشنطن من خلال مناطق المعارضة التي تعتبرها موسكو "موالية لأمريكا"، ولعل اختيار رجل موسكو في جيش النظام، سهيل الحسن، لقيادة العملية يفهم في سياق التأكيد على أن العملية تخدم مصالح موسكو أكثر من النظام السوري.
2- تدويل الصراع: إن تحول ملف الغوطة الشرقية إلى ساحة صراع دولية بين موسكو من جهة وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى؛ قد يزيد من أمد الحملة، خصوصاً مع ما تظهره فصائل الغوطة وأهلها من صمود ورفض لخيار الخروج حتى الآن.
3- معركة طويلة الأمد: ترتكز استراتيجية موسكو والنظام في محاولتهما التقدم برياً من الجبهات الشرقية للغوطة (حوش الظواهرة، الشيفونية، وغيرها) وهي مساحات زراعية مفتوحة، على تجنب حرب المدن في المحاور الأخرى وتخفيف خسائرها، إضافة إلى محاولات السعي لفصل شمال الغوطة عن جنوبها عسكرياً كمرحلة أولى في تقسيمها إلى جيوب، بشكل يُسهَل من السيطرة عليها لاحقاً، الهدف الذي لا يبدو سهلاً ويشير بنفس الوقت إلى نية موسكو خوض معركة طويلة الأمد بهدف إخلاء الغوطة.
4- موازنة الحل السياسي: يبدو أن الحراك الدولي المناهض لعملية الغوطة والهادف لإيقاف القصف عنها ومنع سقوطها، مستمر بوتيرة متصاعدة وأكثر جدية من سابقتها ويدفع باتجاه خيارات مفتوحة لأمريكا وأوروبا بشكل قد يتجاوز مجلس الأمن، خاصة وأن الغوطة الشرقية تمثل الورقة الأكثر تأثيراً في موازنة الحل السياسي بعيداً عن طموحات موسكو والنظام في الحسم العسكري. الخيارات التي سترتبط بشكل مباشر في مدى تصعيد النظام وموسكو في الغوطة الشرقية واحتمالية استخدام الأسلحة المحضورة دولياً أو الاستمرار في عدم الالتزام بقرار مجلس الأمن.
5- احتمالان: في ظل ما تقدم من نتائج يصبح احتمال سقوط الغوطة عسكرياً وإخلاءها من سكانها ضعيفاً في المدى القريب، وممكناً في حال استمرار الحصار ووتيرة القصف العالية لمدة طويلة، مما يعني قدرة موسكو على تحقيق انتصار دبلوماسي على أمريكا وأوروبا، وهذا ما يبدو أن الأخيرة لن تسمح به، أما الاحتمال الأكثر ترجيحاً يتمثل بنجاح المساعي الدبلوماسية مع موسكو في التوصل إلى تهدئة وتثبيت لاتفاق خفض التصعيد، مقابل تنازل المعارضة السورية عن بعض المناطق الواقعة تحت سيطرتها في محيط العاصمة، والتي تبعد خطر قذائفها عن دمشق "تبعاً للذريعة الروسية"، وتحفظ لموسكو ماء وجهها، كما أن هذا الاحتمال قد يكون مغرياً لموسكو والنظام لضم المناطق المحيطة بالعاصمة (جوبر، حرستا، وأجزاء أخرى) إلى مشروعها لإعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرتها، حيث تعتبر تلك المناطق ضواحي سكنية لمدينة دمشق .
6- مسار أستانة: من المستبعد أن تؤثر الغوطة أياً كان الاحتمال الذي ينتظرها على مسار أستانة لناحية مناطق خفض التصعيد التي أنتجها، فحتى الآن تُظهر الأطراف الفاعلة في الملف السوري (دولية وإقليمية) رغبة في الحفاظ على هذا المسار، وخصوصاً في الجنوب، حيث يوجد الأردن والولايات المتحدة الأمريكية كشركاء في التفاهم الذي أفضى إلى ضمه إلى مناطق خفض التصعيد، على عكس الغوطة التي تفتقد الظهير الإقليمي الحدودي، أما الشمال السوري فالتفاهمات بخصوصه قد أُنجزت بين تركيا وروسيا من جهة ومع الولايات المتحدة من جهة أخرى، كما أن التحسن الملحوظ في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة بعد زيارة تيلرسون الأخيرة والتقدم الذي تحرزه تركيا في معارك عفرين، قد يمنح تركيا مساحة أكبر لمناورة موسكو في الشمال وتحجيم تطلعاتها وإيران للاستحواذ على مزيد من الأراضي، في حين تعتبر المنطقة الرابعة من مناطق خفض التصعيد (ريف حمص الشمالي) هي الأنجح والأكثر هدوءاً حتى الآن وغير مرشحة للانفجار مستقبلاً.
7- صراع جديد: تعتبر نتائج الحملة على الغوطة سياسية أكثر منها عسكرية، ففي حال تمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيين من الحؤول دون سقوط الغوطة ومنع موسكو من تأمين محيط العاصمة، فهذا سيعني تقليم أظافر موسكو عسكرياً وسياسياً في سورية، وإحداث توازن قوى بخصوص شكل الحل السياسي وعقبة بقاء الأسد، أما في حال تمكن موسكو من إسقاط الغوطة فهذا سيعني توسيع مساحة سيطرتها ونفوذها وتثبيتها في مواجهة مناطق السيطرة الأمريكية في شمال شرق سورية، الأمر الذي سيحوّل سورية إلى ساحة لحرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن تطيل من أمد الصراع وتعقّد الملف السوري بشكلٍ أكبر.
التوصيات
تشكل الغوطة اليوم بعد دير الزور إحدى المحطات التي ستتوضح فيها الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية، ومقياساً لمدى جدية الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا والخليج العربي في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في سورية، والوصول إلى حل سياسي للأزمة يرسم مستقبل سورية بدون الأسد، وعليه فإن الظرف الحالي يعتبر دقيقاً جداً، ويفرض على المعارضة السورية العسكرية والسياسية تجاوز أخطائها السابقة وإعادة هيكلة نفسها استعداداً لاستثمار المرحلة القادمة، والتي ستكون الغوطة بوابة الدخول لها، وعليه يمكن الإشارة إلى بعض التوصيات الهامة:
1- على مستوى الغوطة
- تعزيز عوامل الصمود: إن حالة الصمود التي تعيشها الغوطة اليوم هي حاصل تظافر جهود المدنيين ومنظمات المجتمع المدني والفصائل العسكرية، واستمرار هذا الصمود ريثما تؤتي جهود المجتمع الدولي أكلها في وقف المجزرة الجارية يبقى رهناً بالحفاظ على هذا التنسيق العسكري مع القوى المدنية، وقدرة الفصائل على تجاوز خلافاتها السابقة.
- سد الذرائع: ويتمثل بسحب ذريعة وجود عناصر هيئة فتح الشام في الغوطة من يد روسيا، وذلك يمكن أن يكون عبر التفاوض مع مقاتلي الهيئة لحل التشكيل نفسه في الغوطة وتسليم سلاحه إلى فصائل الغوطة في حال تعذر إخراجهم إلى الشمال الذي يشهد معركة لاجتثاث الهيئة، أو استخدام القوة في حال فشل الحلول التفاوضية واعتقال عناصر الهيئة.
- التنسيق السياسي: توسيع التنسيق العسكري بين فصائل الغوطة (جيش الإسلام، فيلق الرحمن، أحرار الشام) إلى تنسيق سياسي استعداداً لأي عملية تفاوضية مع الروس، وعدم إعطاء الفرصة لموسكو بإحداث اختراق سياسي بين الفصائل تكسب منه ما عجزت عنه عسكرياً.
- شركاء الصمود: فسح المجال أمام (شركاء الصمود) الفعاليات المدنية والمجالس المحلّية في الغوطة سياسياً بشكل فعّال، وعدم احتكار الفصائل للقرار، واعتماد هذا الأسلوب كنهج مستقبلي يؤسس لإدارة مدنية حقيقية في الغوطة كنموذج لباقي المناطق المحررة.
- ضامنون جدد: محاولة تعديل اتفاق خفض التصعيد في ظل احتمال حدوث أي تفاوض مع روسيا، وطرح إدخال ضامنين جدد أو استبدال مصر كضامن بدولة أُخرى أكثر فاعلية وقدرة على حفظ الهدنة تكون من الدول الداعمة للمعارضة، ومن الممكن اقتراح الولايات المتحدة الأمريكية أو إحدى الدول الأوروبية المشاركة بقوات التحالف الدولي المتواجدة على الأرض السورية، وقد يلقى هذا المقترح دعماً أمريكياً في ظل استراتيجيتها الجديدة في سورية.
- الضغط الدبلوماسي: تكثيف الحراك السياسي الذي تمارسه المعارضة السورية للضغط على الدول الحليفة لها، بخاصة الخليجية للقيام بدور دبلوماسي أكثر فاعلية لوقف المجزرة الجارية في الغوطة.
- الفاعلية الإعلامية: وتتمثل بدعم الجهد الذي يقوم به الناشطون السوريون في مدن العالم كالاعتصامات والمظاهرات أمام السفارات الروسية، وعدم الاستهانة بهذا الدور وأهميته في لفت النظر إلى ما يجري في الغوطة واستمرار التغطية الإعلامية لأخبارها في وسائل الإعلام الدولية.
2- على مستوى الملف السوري
لحم المسارين: الاعتراف بأن ما يجري في الغوطة الشرقية اليوم ومن قبلها استحواذ النظام على البادية السورية وأجزاء من دير الزور وإدلب؛ هو حاصل ونتيجة مباشرة لمسار أستانة، والذي أتاح للنظام فائض قوة يوجهه باتجاه المناطق المحررة، وتجزئة الجبهات وفصلها عن بعضها، وفك الارتباط بين المسار السياسي والعسكري للمعارضة السورية، لذلك أولى خطوات استثمار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سورية؛ هي إعادة توحيد المسار العسكري على مستوى المعارضة بشكل كتلة واحدة وليس جبهات منفصلة، والتنسيق على المستوى التفاوضي مع المسار السياسي، وعدم الفصل بينهما كما حدث في أستانة.
استثمار الهوامش: إن وجود استراتيجية أمريكية جديدة في سورية، ووجود عسكري أمريكي طويل الأمد لا يجب أن يفهم على أنه نهاية الدور الروسي، وإنما هو توازن للقوى، ومقدمة لصراع دولي مباشر بعد نهاية تنظيم الدولة يُضاف إلى الصراع الإقليمي القائم، وقد يساهم في تعقيد الملف السوري أكثر؛ لذا لابد للمعارضة السورية تجنب الانخراط المباشر في لعبة المحاور، فالمرحلة القادمة بحاجة لاستراتيجية مرنة تقوم على استثمار الهوامش التي قد يخلقها صراع المحاور، وتوظيفها في خدمة مصالح وأهداف الثورة السورية.