Brookings - خاص – ترجمة بلدي نيوز
في الوقت الذي يأخذ به معظم الروس استراحة طويلة من السياسة بعد عيد الميلاد الأرثوذكسي في 7 كانون الثاني، لم تكن هناك فترة راحة في العمليات الجوية الروسية في سورية، ولا في النزاعات مع تركيا.
فبدلاً من التركيز على القضايا المهمة لتخفيف الضغوطات المالية، يبدو أن صناع السياسة الروسية قد أعدوا جولة مقبلة لتصعيد الصراع في محاولة لتحفيز الشعب الروسي ليهتفوا بشعارات سياسية جديدة.
فالكرملين لا يستطيع تحمل ازدياد وعي الشعب الروسي لمشاكل البلاد من انخفاض الدخل وتفشي الفساد، ولذلك تعمل موسكو على جلب أزمة جديدة تلفت انتباه الروس إليها وتلهيهم عن مشاكلهم الداخلية.
غاريت كامبل، وهو صحفي في مؤسسة بروكينغز وصف ذلك مؤخراً، بدقة على موقعه، بالقول: "إن الحوافز من وراء تأجيج صراعات عنيفة، هو أكبر من مجرد هاجس لبوتين للانتقام من الغرب"، ويضيف: "فموسكو لن تكتفي بمبدأ العين بالعين، بل يحتاج بوتين إلى فوز مشرق بما فيه الكفاية لتمويه الواقع الاقتصادي القاتم في روسيا".
وقبل أن تسقط المقاتلة التركية (F-16) طائرة روسية حربية كانت قد اخترقت أجوائها في 24 تشرين الثاني، كان التدخل الروسي في سورية يتم بشكل سلس، ورغم أن تقييم الأخطار بالنسبة لروسيا كان مثيراً للصدمة بسبب سطحيته، حيث كانت حساباتهم ضئيلة بالمقارنة مع الحرب الأهلية المعقدة والطويلة، وذلك بسبب المهلة البسيطة التي حددها خطاب بوتين المقرر مسبقاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28أيلول، لكن القوات الجوية الروسية قد قامت بسلسلة من الغارات بصورة مثالية كافية لتوليد صدى سياسي كبير عند الشعب الروسي.
لكن الصورة المثالية التي رسمها بوتين أمام شعبه، لن تحقق له بالضرورة حملة منتصرة في سورية، فمهمة روسيا حتى الآن لم تكن كافية لتغيير مسار الحرب في سورية، ربما تكون قد وفرت مئات الطلعات والدعم الجوي لقوات الحكومة السورية، ولكن قوات بشار الأسد هي من النوع الذي لا يمكن أن تقوم بتنفيذ هجوم ناجح، كما أن روسيا لا تستطيع أن تكثف من شدة حملاتها الجوية لأن حلفاءها السوريين على الأرض قد يهربون من أرض المعركة من الذعر.
بالإضافة إلى أن هناك سجلاً حافلاً من الأعطال فنية في سلاح الجو، مما يزيد من فرص حصول كارثة في القاعدة الجوية الموجودة خارج اللاذقية في أي يوم، ولذلك لا توجد أي فرصة لتحقيق ما يشبه النصر في سورية، أو تحقيق شيء قد يتستر على هذه النكسة.
كما أن حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، قد قدمت الفرصة لروسيا لاستغلال ذلك للتضليل عن أزمتها في سورية، وبدأت على إثرها بحملة دعاية مسعورة ضد تركيا كان لها أثرها الفعال في الرأي العام الروسي.
تركيا والتي كانت شريكاً استراتيجياً لروسيا سابقاً، تجاوزت الآن أوكرانيا والولايات المتحدة وبدت العدو الأول للأمة الروسية، فأصدرت وزارة الخارجية الروسية تصريحات مهينة متهمة تركيا بكل الذنوب التي قد تلصق بعدو (من التواطؤ مع تنظيم الدولة في تهريب النفط، إلى قمع الأقلية الكردية)، وتؤكد استراتيجية بوتين الجديدة (للأمن القومي) أن وجود تنظيم الدولة هو نتيجة مباشرة لسياسة "الكيل بمكيالين" نيابة عن بعض الدول المنخرطة في النضال ضد الإرهاب، ففرضت الحكومة الروسية عقوبات جديدة، اعتباراً من 1 كانون الثاني، تحظر على نحو فعال الواردات الغذائية من تركيا وتقييد النشاط الاستثماري.
هذه الأعمال الانتقامية المتواصلة، تُبقي النزاع مستمراً بين الدولتين وتنتج القليل من الترضية للشعب الروسي رغم أنها تؤدي للضغط على المستهلكين الروس.
من جهتها، تعالج تركيا هذا الصراع بحذر، فلقد امتنعت عن أي ضربات جوية في سورية، ولكنها في ذات الوقت تعد الإجراءات القانونية الدولية لمعاقبة روسيا، وأنقرة تستطيع المماطلة في ذلك وهو ما يعطيها الوقت لتأمين المزيد من الدعم من حلف شمال الأطلسي لحماية حدودها.
كما أن لديها سبب وجيه لتعتقد أن موسكو قد تتسرع بالقيام بإجراء أخطر كون الوقت ينفذ منها في مهمتها في سورية، ولأن روسيا الموالية للأسد في سياستها المضادة للثورة لا تأخذ باعتبارها التعقيدات الموجودة على الأرض في سوريا والمنطقة.
وفي تدخلها الجريء في سورية، ربما كان للقيادة الروسية بعض الخبرة في بيئة ودية في منطقة طرطوس اللاذقية، ولكنها لم تعي عواقب الانضمام المتنافر إلى التحالف الشيعي بقيادة إيران، وقد حاول رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يشرح لبوتين أن مثل هذا التحالف هو فكرة سيئة.
وليبدي حزب الله أن حجته في سورية أكثر إقناعاً، لم يثن روسيا عن تسليم إيران صواريخ 300- س أرض جو المتفق عليها من فترة طويلة، وهو سلاح يبعث على القلق لإسرائيل والمملكة العربية السعودية على حد سواء.
وأنتجت هذه المظاهر المادية في التحالفات بين روسيا وإيران توترات جديدة في جنوب القوقاز، والذي يتبع لتركيا عن كثب، كما أنه أزعج أيضاً الكثير من المسلمين داخل روسيا (تتارستان على وجه الخصوص)، الذين يخشون من التصعيد مع تركيا.
ولذلك تجد موسكو نفسها في موقف محرج للغاية في المنطقة، لا سيما وجهاً لوجه مع التوترات بين إيران والمملكة العربية السعودية، والتي تصاعدت بشكل حاد بعد إعدام المعمم نمر النمر في 2 كانون الثاني.
وخلال السنة الماضية، وخاصة منذ تدخل روسيا في الصراع السوري، فقد بوتين شبكة التواصل على نطاق واسع مع الأسرة السعودية المالكة وقادة آخرين في الخليج، ويأتي هذا التراجع في العلاقات لأنه بات ينُظر لروسيا على أنها حليفة إيران.
وتتمتع تركيا بقدر أكبر من المرونة والقدرة على التوسط في هذه الصراعات الطائفية والجيوسياسية، ولكن روسيا أصبحت جزءاً من المشكلة، فلقد تأملت موسكو أن يرفع الصراع السعودي الإيراني من سعر النفط، ولكن السوق لم يستجب.
وفي الزاوية السورية التركية الضيقة، حتى لو قاوم بوتين إغراء الخروج من مأزقه الحالي في سورية عن طريق اتخاذ خطوة استباقية عدائية تجاه تركيا، فهو بذلك لن يحصل إلا على الانتظار ومشاكل وأزمات أكبر.