بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
تجري عدة تحولات سياسية متصلة بتطورات عسكرية في سورية، لرسم خرائط النفوذ, تفرضها مجريات الحرب, لتعيد صياغتها بالدم السوري وتدفع بها إلى منعطفات جديدة, الغاية منها تمزيق الخارطة السورية, ومحاولة فرض استراتيجيات روسيا وإيران بالقوة العسكرية المفرطة, مما يجعل عملية التحول السياسي بالغة التعقيد وغير قابلة للتنفيذ, وإعادة بناء الدولة تشكل تحديا كبيرا, رغم تمسك كل اللاعبين بوحدتها في ظل تنامي سياسة أميركية جديدة بسياق ترسيم خرائط النفوذ وتمزيقها وفق المصالح المتضاربة.
توطئة
تعرض هذه الورقة وصفا موجزا لتحولات عسكرية حرجة طالت الشمال السوري في ظروف الحرب المستمرة التي تعصف بالبلاد. وتبين الورقة ما أفرزته المعارك الجارية من تشكيل خرائط جديدة بعيدة عن التفاهمات الدولية وحتى الإقليمية في الأرياف السورية الشمالية المحررة, وفي منطقة عفرين، مع رصد التطورات بين فرقاء الحرب وأهداف كل منهما, والتوقف عند آفاق القادم الذي ينتظر محافظة إدلب بحسب وجهة وحركة الطائرات الروسية التي ترسم مسار الميليشيات الطائفية بعد استكمال احتلال منطقة شرق سكة حديد الحجاز.
كما تحاول الورقة, وفقا لخلفية مجريات المعارك ومعطياتها, تصور النتائج المتوقعة لتجاذبات الميدان في إطار هذه الحرب المستمرة.
مقدمة
تصاعدت العمليات العسكرية في سورية بعد التفعيل العملي لاتفاقية "آستانة6", إذ دخلت روسيا وحلفاؤها (نظام الأسد والميليشيات الشيعية الإيرانية) في سباق متسارع لحسم الحرب عسكريا, باعتبارها خيار روسيا العلني في وأد ثورة السوريين في إطار انسداد الأفق السياسي والخلل الواضح في موازين القوة, مما جعل روسيا وحلفاءها يستثمرون أوراق آستانة بعملية عسكرية واسعة ترسم مسارها الطائرات الروسية باستخدامها كافة أنواع الأسلحة التدميرية المحرمة دوليا, في استعجال واضح لجر الجميع إلى "سوتشي" لفرض تسوية سياسية على مقاس الروس قبل استكمال ما يلوح في الأفق من مقاربات المجتمع الدولي والقوى الدولية المؤثرة للحرب في سورية ولأطرافها، إذ صعدت الدبلوماسية الأميركية من خطابها السياسي ضد الميليشيات الإيرانية ونظام الأسد وروسيا, في حين دعت فرنسا وبعض الدول الأوربية إلى إعادة إنعاش قضية كيماوي الأسد في المحافل الدولية, علاوة على التحضير العملي لمؤتمر "فيينا" الذي يسبق "سوتشي" الروسي، في سباق متسارع لاقتسام النفوذ, ومهما تباينت التحليلات, فإن مجمل المعطيات تدل على أن المنطقة تعصف بها رياح دولية قد تنقلب على الخرائط في ظل أوضاع كارثية يعيشها في الآونة الأخيرة الشعب السوري.
القوة العسكرية الروسية ترسم خرائط النفوذ
مثَّلت الشراكة على مكافحة "الإرهاب" بين روسيا وإيران أداة أخرى لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية ؛ حيث تخطَّى وجود قوات الاحتلال الروسي تحقيق الأهداف المعلنة لعملية الحرب ضد المنظمات الإرهابية, إلى تعقب عناصر الجيش السوري الحر في معاقلهم، وتدمير المدن والقرى الثائرة وتهجير ملايين السوريين, وذلك يدخل في صميم تمكين احتلالهم وتعزيز نفوذهم فيها, لقد تجلى ذلك في الحملة العسكرية الجارية في الأرياف المحررة لمحافظات حلب وحماة وإدلب في إطار تنفيذ اتفاقية آستانا, وترسيم حدود النفوذ المتفق عليه مسبقا, وعلاوة على ذلك قامت روسيا باستقدام تنظيم "الدولة" إلى ريف حماة الشرقي, ودعمته بالمعدات اللازمة لمواجهة فصائل المعارضة السورية المسلحة, حيث نفذ كامل المهام المناطة به.
وسيكون من المهم الإشارة إلى أن دور روسيا وحلفائها في محاربة الإرهاب, يشكل أمثولة مضحكة, إذ أن التنظيم لا يزال مرابطا جنبا إلى جنب مع قوات الأسد وميليشيات إيران شرق سكة حديد الحجاز, في الوقت ذاته صبت الطائرات الروسية وتلك التابعة لقوات الأسد جام حممها على المدن والقرى السورية الثائرة المشمولة باتفاق خفض التصعيد, ممن تتخذ مواقف مناوئة لسياستها التي دمرت البلاد وانتهكت الثوابت الوطنية لثورة السوريين مثل: وحدة ترابهم, واستقلالية قرارهم, وممارسة أعمال السيادة على أرضهم.
تعتقد موسكو أن توغلها في قرى وبلدات الشمال السوري المشاطرة لخط سكة حديد الحجاز في مواجهة مناوئيها من المعارضة السورية المسلحة, سيعلي من مكاسبها, ويعزز نفوذها في تلك المنطقة،إلا أنها لا تدرك واقع وحقيقة المنطقة التي يغلب عليها الطابع العشائري الذي لن يسمح لها بتجاوز حدود المصالح الوطنية, ولعل تجربة الاستعمار الفرنسي أوضح مثال وأقوى عظة لمن يتعظ, رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بأهالي المنطقة.
حتى الآن تمكنت روسيا من تنفيذ خرائط آستانة باحتلالها كامل منطقة شرق سكة حديد الحجاز مع توغلها غرب السكة مسافات متفاوتة تصل في بعض النقاط إلى 15 كم, وهذا مخالف لبنود آستانة التي أوصت بوضع شرق سكة حديد الحجاز تحت حكم محلي عشائري لا وجود فيها لقوات الأسد أو الميليشيات الإيرانية, ولكن موسكو زجت بتشكيلات مقاتلة يغلب عليها المناطقية والمذهبية، فمعظم القادة والمقاتلين طائفيون من سورية وإيران والعراق ولبنان، وهذا إفراز طبيعي لدور روسيا في رعاية هذه الميليشيات لذلك فالقوات التي هاجمت بها روسيا منطقة سكة الحديد, أضفت على الحرب طابعًا مذهبيًّا وجهويًّا، ازدادت وتيرته بعد توغلها باتجاه المنطقة الهضبية السنية في الشمال السوري.
وبناء على ذلك، يشار إلى أن استراتيجية روسيا تعتمد القضم المرحلي للمناطق المحررة عبر شرعنتها بخرائط ترسمها وتواجه منتقديها بإثبات حسن نية, كالهدن ومناطق خفض التصعيد, ولكنها فيما بعد تتولى قيادة العمليات العسكرية لتنفيذ إحكام السيطرة على تلك المنطقة المرسومة إيذانا لتمزيقها في مرحلة قادمة بحال توافر الظروف الدولية والإقليمية التي تتيح لها تدمير المنطقة المراد احتلالها.
في الآفاق المنظورة لتداعيات الخرائط الروسية المتبدلة، ثمة ما يشير إلى زعزعة استقرار سورية ووحدة ترابها في ظل تنامي نزعات طائفية تستقوي بالآلة العسكرية الروسية لتتحول البلاد إلى كانتونات طائفية ومشيخية تذكر بعهد الاحتلال الفرنسي, وقد تتعرض محافظة إدلب وما تبقى من مناطق محررة مجددا إلى اجتياح مجاميع المرتزقة الشيعة بدعوى الحفاظ على "الوحدة الوطنية" مدعومة بالآلة العسكرية الروسية بهدف تثبيت وكيلها على كرسي السلطة لشرعنة احتلالها الدائم لسورية.
واشنطن تستقوي بالقرارات الدولية لرسم الخرائط
في إطار الخرائط الجديدة التي صاغتها الطائرات الروسية والأميركية أمام جحافل المرتزقة الطائفيين والعرقيين، ثمة من يرى أنه قد دفعت خارطة النفوذ الروسية المنتفخة, واشنطن إلى صحوة جديدة عبرت عنها بنشاطها الدبلوماسي المتعاظم، وما يحمله من أطر سياسية واضحة ومفاجئة ومناقضة لرؤية موسكو التي تعمل على استثمار إنجازاتها في سورية منفردة عن بقية العالم.
تنطوي الرؤية الأميركية الجديدة للقضية السورية على عدة عناصر يقف على رأسها توصيف طبيعة الصراع السوري القائم بين شعب ثائر ونظام مستبد, وآلية حله وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254, وإجراء انتخابات حرة نزيهة بإشراف الأمم المتحدة يشارك فيها كل السوريين في الداخل وبلدان اللجوء, وعودة النازحين والمهجرين, وتفعيل المساعدات الإنسانية, وتنحي الأسد بانتهاء المرحلة الانتقالية, وإقامة دولة مستقرة وموحدة.
ما يثير الانتباه تحديد "تيلرسون" وزير الخارجية الأميركي لدور القوات المسلحة الأميركية في سورية, إنهاء تنظيم "الدولة" والعمل على عدم ظهوره مجددا, وطرد الميليشيات الإيرانية من سورية, وإنهاء حكم الأسد وعائلته, وحماية مصالح أميركا في المنطقة, وقال حرفيا: "لن يبقى الجيش الأميركي في سورية لهزيمة تنظيم الدولة فحسب, إنما لمواجهة النفوذ الإيراني والعمل على إزاحة بشار الأسد عن السلطة".
أول ملامح تفعيل الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجسد في إنعاش التحقيق باستخدام أسلحة كيماوية في سورية، في اجتماع باريس قبل يومين, في محاولة لمحاسبة المسؤولين عن الهجمات. وحمل وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون موسكو المسؤولية مع الأسد في الهجمات الكيماوية التي استهدفت أخيراً غوطة دمشق الشرقية.
جاء ذلك إثر المبادرة الفرنسية بإنشاء "الشراكة الدولية لمنع الإفلات من العقاب" المؤلفة من 24 دولة، ومحاولة للاحتفاظ بالمبادرة في ضوء الاتهام الأميركي لموسكو بتأمين الغطاء السياسي لاستخدام النظام السوري هذه الأسلحة، بالتزامن مع هجوم الغوطة.
وأيدت بريطانيا الوجهة الأميركية في اجتماع باريس، مؤكدة دعم المبادرة الفرنسية. وقال السفير الفرنسي فرنسوا ديلاتر إن الهجوم بالكلورين في "دوما" يشكل استمراراً لسلسلة الهجمات الكيماوية التي شهدتها سورية العام الماضي.
تبع إنعاش تحريك واشنطن الملف الكيماوي, خطوات أخرى منها الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية لنظام الأسد, وعدم إعادة الإعمار في مناطق نفوذ الأسد, ما لم تتحقق عملية انتقال سياسي في سورية على أساس القرارات الدولية.
هذه الخطوات الأميركية الضاغطة, موجهة في الأساس إلى روسيا, في إطار استراتيجية تشكيل خارطة جديدة تمتد جغرافيا من الحدود الأردنية والعراقية وصولا إلى ضفاف الفرات الشرقية يحميها جيش مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل عمادها ميليشيات كردية، يقومون بحراسة الحدود التركية والعراقية مع سورية, بمواجهة مباشرة مع حلفاء موسكو من قوات الأسد والميليشيات الإيرانية في تغير واضح لحدود النفوذ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بدء واشنطن بإنشاء قواعد عسكرية في منطقة الجزيرة وتوسيع مطار "رميلان" العسكري لاستقبال الطائرات الاستراتيجية الأميركية لمواجهة النفوذ الروسي في قاعدة "حميميم" العسكرية, إيذانا لصدام عسكري على ضفتي الفرات بين مرتزقة الطرفين قد يمزق الخرائط المعدة في المؤتمرات ويبدل مساحتها مدا وجزرا في ظل الاشتباك الدبلوماسي بين موسكو وواشنطن، التي ترى في مؤتمر "سوتشي" خروجا عن مسار القرارات الدولية, واتهام الأولى لواشنطن بالتضليل الإعلامي.
غصن الزيتون.. خارطة الضرورة
اعتمدت تركيا خيار الحسم العسكري في منطقة عفرين لاستئصال ميليشيا "ب ي د" الكردية سليلة العمال الكردستاني الموسوم بالإرهاب, وفق استراتيجية أنقرة المتمثلة بدحر التهديدات الأمنية عن عمقها القومي بخيار القوة العسكرية، الذي لا يتعارض مع الأهداف التركية المعلنة في دعمه لعملية "درع الفرات".
في ظل هذا الخيار تجدر الإشارة إلى أن الجيش التركي بالاشتراك مع الجيش السوري الحر يتولى تنفيذ سيناريو التخلص من تهديد ميليشيا "ب ي د" الانفصالية التي تكفّلت بتهجير مناطق سورية واسعة وتفريغها من أهلها, لتنفيذ مشروعها الانفصالي بدعم أميركي وبذريعة التخلص من تنظيم "الدولة", وارتبطت هذه الميليشيا بشبكة علاقات تعاون مع روسيا وتواطؤ مع نظام الأسد سواء في تسليم الحسكة أو احتلال حلب, وعجل من العملية العسكرية التركية المشتركة مع الجيش الحر, والتي أطلق عليها "غصن الزيتون" التوجه الأميركي الأخير في الإعلان عن تشكيل حرس حدود مؤلف من 30 ألف جندي بقيادة ميليشيا "ب ي د" مما زاد من المخاوف التركية محاولة تفعيل وصل القامشلي بكانتون عفرين مشكلا تهديدا جديا لمجالها الأمني على طول الشريط الحدودي المحاذي للحدود التركية من الجهة الجنوبية, وهو ما سيعطي دفعا للتنظيم الأم في تركيا لمعاودة نشاطه التخريبي كما تصف أنقرة.
هذه التهديدات دفعت تركيا إلى تغليب مصالحها الخاصة فتوصلت مع موسكو إلى مقايضة إدلب بعفرين كما فعلت سابقا في حلب، عندما قايضتها بشريط جرابلس – اعزاز.
وقد حددت واشنطن موقفها من عملية غصن الزيتون في تصريح مسؤوليها بأن عفرين ليست مشمولة بمناطق التحالف الدولي, وكانت روسيا قد سحبت قواتها من منطقة عفرين, وتركت لنظام الأسد إصدار بيانات إعلامية واهية وفق نهجها في الممانعة والمقاومة الوهمية.
خارطة الضرورة التركية أوضح معالمها يلدريم الذي قال إن "عملية غصن الزيتون في عفرين تهدف إلى السيطرة على 30 ألف كيلو متر تسمح بإعادة أكثر من ثلاثة ملايين سوري" يعيشون بصفة لاجئين على أرضها.
ولا تزال العمليات العسكرية جارية ضد ميليشيا "ب ي د", مع تقدم ملحوظ من كل المحاور ولن تنتهي إلا بطرد الميليشيا المتنفذة في منطقة عفرين ومحيطها.
تزامنت عملية غصن الزيتون مع سيطرة روسيا على منطقة شرق سكة حديد الحجاز وتحديدا على القاعدة الجوية بالقرب من بلدة أبو الظهور.
ووفق هذه التطورات وصل أمس الأربعاء, وفد تركي مؤلف من ست سيّارات، إلى منطقة العيس جنوب حلب، ورافقهم وفد من “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على المنطقة هناك، وجال الوفد في نقاط الرباط وتلة العيس الاستراتيجية, كبداية لترسيم حدود النفوذ حسب تفاهمات "آستانة6".
خاتمة
إن تصاعد الصدام بين تحالف الولايات المتحدة وبين أحلاف روسيا, يكشف هشاشة الغاية المعلنة من تدخلهما العسكري في سورية بذريعة توحدهما حول غاية واحدة, هي مواجهة تنظيم "الدولة", أو مواجهة الإرهاب حسب توصيفهما, وأيا كانت الدوافع, فالنفعية الخاصة بهما تلعب دورا في التماسك أو التفكك, وتشي الظروف السائدة إلى أنهما في بداية طريق الانهيار إلى منزلقات خطيرة قد تشهد صراعا محموما في التنافس على رسم خرائط النفوذ في وادي الفرات.
فالروس الذين يريدون الاستفراد بالقرار السوري عبر تدميرهم بالطائرات, المدن والبلدات والقرى السورية الثائرة, ومن ثم سوق الجميع إلى "سوتشي" لفرض تسوية سياسية على السوريين وفق استراتيجيتهم اصطدموا بالموقف الأميركي الجديد, وتشكيله تحالفا أوربيا واسعا, يهدف إلى تعطيل "سوتشي" باعتباره خروجا على مسار جنيف الدولي.
وبالتالي, فإن التصعيد الجديد قد يوسع دائرة الصراع في سورية في ظل تصلب مواقف كافة الأطراف بالتمسك بالخرائط التي صاغوها بدماء السوريين, وهذا بدوره يشكل غموضا لمصير الصراع الذي يتعاظم سياسيا سواء في فيينا أو سوتشي, ويقترب من الصدام العسكري ولو عن طريق مرتزقة كل طرف, بعد لجوء واشنطن وموسكو إلى فرض خارطته, مما قد يؤدي تدريجيا إلى احتدام الصراع العسكري في منطقة وادي الفرات.
ويبدو أن موسكو لا ترغب في تأجيج الصراع مع واشنطن ومعها الدول الأوربية, لذلك قد تضطر للتوصل إلى تسوية تقاسم النفوذ وفق خرائط جديدة لا مكان فيها للأسد أو إيران, أو تنزلق إلى صدام عنيف سيكون كارثيا على الروس.